صمود رغم الحدود والقيود
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي شكرا
ادارةالمنتدي
صمود رغم الحدود والقيود
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي شكرا
ادارةالمنتدي
صمود رغم الحدود والقيود
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

صمود رغم الحدود والقيود

منتديات للاسرى والشهداء
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

  رواية الشتات / للأسير المحرر رأفت

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
صمود رغم الحدود والقيود
عضو ماسي
عضو ماسي
صمود رغم الحدود والقيود


عدد المساهمات : 297
نقاط : 752
تاريخ التسجيل : 21/02/2011

 رواية الشتات / للأسير المحرر رأفت  Empty
مُساهمةموضوع: رواية الشتات / للأسير المحرر رأفت     رواية الشتات / للأسير المحرر رأفت  Icon_minitimeالإثنين يناير 23, 2012 12:18 pm

من أدب السجون,,,

الجزء الأول من رواية
الشتات

تأليف
رأفت حمدونة
سجن بئر السبع

الإهــــــــداء
إلى روح الحبيب المصطفى " صلى الله عليه وسلم "
وإلى الذين رووا بدمائهم الزكية ثرى هذا الوطن الغالي … وإلى شهداء وجرحى ومقاومي الشعب الفلسطيني عامة … وإلى إخواني وأخواتي الأسرى خلف القضبان … وإلى والدي ووالدتي الأوفياء و زوجتي المخلصة ...وإلى كل الذين ساهموا في انجاز هذا العمل... أقدم هذا العمل المتواضع 0

كان نصر يذرف الدمع كلما نظر إلى خارطة الوطن، ويحلم كما كل العالم بالحرية والسيادة والاستقلال، يعشق القدس التي ولد فيها فيتذكر لحظات الطفولة وقبة الصخرة وأسوار القدس الشامخة الصامدة بذلك الكبرياء الأسطوري على مر التاريخ.
شعر نصر بالذنب حينما أطاع أمه التي أجبرته على الرحيل خوفاً من القتل على يد الاحتلال الذي يعادي الحياة، ويعشق رائحة الدم وينبذ السلام ويمقت الرحمة.
كانت تقول له خالك خالد استشهد لأنه رفض الخروج من المجدل في النكبة ولا أريد أن أخسرك كما خسرته هناك.
فيقول لها وأي خسارة تعادل سقوط القدس يا أم نصر ؟؟
فترد : للقدس رب يحميه يا بني، وإن أردت رضاىَّ فاذهب إلى الأردن قبل أن تُقْتل كما قتل خالد الذي لازال في ذاكرتي.
لم يستطع نصر كسر كلمة أبيه حينما تدخل، فوافق أن يرحل مع أهله إلى مخيم الوحدات في الأردن، أبو نصر الذي حلم بالمجدل، وطوال حياته تمنى العودة إليها فاحتفظ بمفتاح البيت وأوراق الأرض ولكنه توفي قبل ذلك.
عاش نصر مع والدته في غربة عن الوطن – ولكنه لم ينسَ المجدل بلد أبيه ولا القدس مسقط رأسه وذكرى طفولته.
تزوج نصر من فتاة فلسطينية عاشت ظروف الهجرة وقاست حياة الشتات، ولكنها كانت بمستوى اجتماعي أفضل وإخوانها أغنياء.
شعر نصر بالإثم وهو يرى الفدائيين الفلسطينيين يقدمون أرواحهم رخيصة في سبيل الله والوطن- فقرر أن يعود إليه.
لم تعارض والدته القرار بعد أن أقنعها بواجب التضحية ووجد العقبة عند زوجته التي رفضت أن تترك أهلها وإخوانها فخشيت الوحدة والمصير المجهول مع زوجها بعد أن علمت بمقصده.
لم يكن بد أمام نصر إلا أن يختار ما بين الواجب المقدس وبين زوجته حيث متاع الحياة الدنيا، ما بين فلسطين والقدس وعسقلان وبين المستقبل الذي يُؤَمِّن فيه راحة الجسد مع عذابات الشتات.
سألتحق بالمقاومة وأعود للوطن يا لطيفة وعليك أن تختاري ما بيني وبين البقاء هنا فماذا ترين؟
هذا ما قاله نصر لزوجته بعد أن فشل في إقناعها ليالي طويلة.
ترددت لطيفة أياماً وهي تفكر في غيب الأيام المقبلة إذا ما عادت مع زوجها بعيداً عن أهلها وإخوانها وفي نهاية الأمر رفضت العودة متألمة على فراق زوجها فحسمت مصيرها وقالت كلمتها.
لم يكن لنصر خيار ثاني عن أبغض الحلال رأفة بها وتأميناً لمستقبلها حتى لا تبقى معلقة ووقع الفصل بينهما بالحسنى والذكرى الطيبة.
كانت أصعب اللحظات في حياته وهو يودع أمه التي سلمت بالقدر أمام عناده وإصراره وشوقه لتراب الوطن فعانقته بحرارة وضمته إلى صدرها وطالت في البكاء، كانت أم نصر تشعر أن هذا اللقاء هو الأخير بينهما في هذه الحياة، فحاول أن يهدئ روع أمه ويطمئنها عليه، وأنه لن يطيل عليها بأخباره ورسائله وخطوات حياته.
قبل نصر رأس أمه ويديها وطلب منها الرضى والدعاء.
وضعت أمه راحتيها على رأسه ودعت له بالسلامة والرعاية وختم معها اللقاء بلا اله إلا الله فردت محمد رسول الله.
عاد نصر إلى وطنه وهو يحمل في قلبه الإيمان وفي نفسه العزيمة والإرادة والهمة، وفور عودته انضم إلى صفوف المقاومة أملًا وطموحاً للعودة الحقيقية إلى المجدل- هذه المدينة التاريخية الساحرة بجمالها، الطيبة بأهلها والزاخرة بأحداثها واهتمام الدول الكبرى بها على مر العصور والأزمنة، كان يشعر بالراحة وهو يسمع بعظيم أجر المرابطين في عسقلان، وينتفض كلما تذكر نقل رأس الحسين إليها، فوجدها مدينة العلم والمعرفة برجالها وشيخها ابن حجر العسقلاني واستلهم بطولات القائد الإسلامي الكبير- صلاح الدين الأيوبي فيها.
جميلة هذه البقعة بسماءها وبحرها وبرتقالها وعنبها وتينها وزيتونها وشهرة سوقها ومسجدها وحرفة النسيج التي عمل معظم أهلها بها.
أقسم نصر على إحدى الحسينين : النصر والقدس وعسقلان وكل فلسطين أو الشهادة.
كانت القدس مسقط رأس نصر وذكريات الطفولة، رغم أنه لم يستأنس فيها بصحبة أقاربه وعائلته التي هاجرت من المجدل إلى مدينة غزة.
فاستقبلوهم أهلها استقبال الأنصار للمهاجرين وتقاسموا وإياهم لقمة العيش وقسوة الظروف ومسيرة الجهاد والتضحية والنضال.
معدودة كانت الأيام التي مرت على فراق لطيفة لزوجها حتى تأكدت من حملها من نصر وبعد شهور وضعت بنت سمتها انتصار تخليدا لذكراه.
لم يعرف نصر بخبر حمل زوجته قبل الوداع، وبعد أشهر لم يكن بد في ظروف وحدته إلا الزواج، فتزوج بتهاني ورزقها الله بولد سموه رفيق.
أمضى نصر حياته في أعمال المقاومة بصحبة الفدائيين من أبناء شعبه الذين رفضوا الذل والخنوع للاحتلال فكبدوا العدو خسائر ومادية كبيرة وأفقدوه الأمن والسلام عرف نصر بشجاعته واشتهر بجرأته فقام بعدة عمليات فدائية بصحبة مجموعة من المتطوعين أدت لقتل وجرح عدد من جنود الاحتلال ومستوطنيه.
كان على نصر في تلك المرحلة أن يهدأ ويختفي ويبعد عن الأعين الأمر الذي لم يرق له وخجل من نفسه ودموع أمه ومصيره مع لطيفة، انكشف أمر نصر لمواصلة المقاومة والجهاد وانتقل مطارداً من مكان إلى آخر.
راقبت قوات الاحتلال عبر عيونها بيت نصر الذي انغلق على زوجته وطفله رفيق.
فواصل نصر معها عبر الحاجة محبوبة بالسلامات والحاجيات.
كان إبراهيم صديق نصر ورفيق دربه في المقاومة، فتقاسما رحلة الدم ومسيرة الجهاد والألم والأمل وكانت الحاجة محبوبة زوجة إبراهيم تعد لهم طعامهم وتنظف لهم ملابسهم وأحياناً تنقل لهم أسلحتهم والرسائل.
وما هي إلا أيام حتى علم بمرض ابنه رفيق واستغاثة زوجته به لنقله إلى المستشفى، فلم يفكر حينها طويلاً لمساعدتها ومساندتها في ظروفها ونجدة مهجة قلبه الوحيد.
أسرع نصر بصحبة إبراهيم إلى بيته وانطلقا بالزوجة والطفل إلى المستشفى وما هي إلا لحظات حتى وصل الخبر للقائد العسكري في المنطقة فاعد قوة عسكرية كمنت لسيارته بين أشجار قرية إبراهيم الفقيرة والواقعة ما بين بيت نصر والمستشفى.
خرجت قوات الغدر الجبانة فجأة واعترضت طريقهم وبلا رحمة أطلقت النار العشوائي على السيارة فاحتضنت الام ابنها المريض خوفاً عليه.
أوقف إبراهيم السيارة وتناول سلاحه وأطلق النار حتى استشهد في تلك اللحظات، فتح نصر باب السيارة لزوجته لإنقاذها وابنه فتعالت صيحاتها والطفل خوفاً من صدمة الموقف- تمالك نصر نفسه وبدأ يطلق النار على الدورية العسكرية فقتل منهم اثنين وجرح آخرين قبل أن تناله رصاصاتهم.
حضنت الأم طفلها وضمته إلى صدرها وحمته من الرصاص المتطاير في كل الاتجاهات حتى أصيبت، ولم تأبه بحالها وواصلت حماية طفلها فاستشهدت والطفل بين ذراعيها.
توقف إطلاق النار بعد استشهاد الثلاثة وما هي إلا لحظات حتى أحضر قائد الوحدة مختار القرية ووجهائها للتعرف على القتلى الثلاثة، فوجد الطفل بين ذراعي أمه يتحرك ولم يصبه أذى غير أنات المرض الذي كان يعانيه، فحمله معه وتعرف على إبراهيم ابن القرية وتأكد من هوية نصر وزوجته، وفي نهاية اليوم جرت لهم مسيرة خرج فيها كل أبناء القرية بالحناجر الثورية والزغاريد وودعوا الشهداء الثلاثة التي تزينت أجسادهم بالأعلام الفلسطينية وأكاليل الزهور.
كان وقع الخبر كالصاعقة على أم نصر التي خشيت هذه اللحظة، فقام ممثلوا مكتب المقاومة بزيارتها بعد أن تلقوا خبر مقتل الثلاثة عبر مختار القرية الذي تعرف على هوية الشهداء وتفاصيل الحادث.
كان الخبر أقوى من أم نصر التي أقعدها المرض فتوفت حسرة على ابنها وزوجته.
عاش رفيق يتيما من والديه وعائلته التي ذهبت وذهب خبر حفيدها التي رأت فيه ابنها دون أن تراه أو أن تصل إليه.
كما وتركت أم نصر حفيدتها انتصار يتيمة دون أن ترى وجه أبيها أو تحظى ببسمة حب واحدة منه.
عاشت انتصار منعمة بحياة مستقرة مع والدتها لطيفة مع إخوانها في الأردن.
استقرت حالة رفيق بعد أيام برعاية زوجة المختار التي احتضنته، ولكن الطفل بات بحاجة لمن يرعاه من أقارب أمه لأن زوجة المختار كبيرة في السن ومصابة بالمرض.
لم يعرف من أخوال رفيق إلا شخص يعمل في بلد أجنبي بعيد، ولم تكن وسيلة لمعرفة عنوانه وترتيب نقل الطفل إليه فاضطر المختار أن يجمع وجهاء القرية ورجالها فأطلعهم على حال رفيق والحاجة لمن يتبناه، وأشهدهم على أمانة الطفل من وراء أبويه فقد احتفظ له بذهب والدته وثمن السيارة وبيت أهله الذي باعه بعد أن تعرف عليهم.
كان المختار يخشى تهرب أهل القرية من تبني طفل لا يعرفون عنه إلا الحادث الذي حصل.
وظروف الفقر وقلة العمل وصعوبة العيش كانت عقبة أخرى أمامهم.
لم يجد المختار بد إلا عرض مأساة الطفل على الحاجة محبوبة والتي لم تقف من صدمتها بعد استشهاد زوجها إبراهيم التي عاشت معه أجمل الأيام والذكريات.
كانت الحاجة محبوبة امرأة ذكية وقوية وحكيمة وتعادل بشهادة أهل القرية عشرة رجال هي لم تحج ولكنها كانت في بطن أمها حينما حجت فأطلقت عليها أمها والقرية الحاجة منذ ولادتها وطفولتها.
لم تعارض الحاجة تبني رفيق ابن رفيق زوجها كرامة لروحه الطاهرة وشعوراً بمأساة الطفل ومستقبله فساوته بابنها الذي يكبره بثلاث سنوات.
لم تستقبل الحاجة محبوبة من المختار سوى الوعد بمساعدة أهل القرية لها لتعارك الحياة مع طفلين ورغم أخذها أمانة رفيق من المختار إلا أنها أبت أن تقترب منه أو تفرج عن نفسها به، فتوجهت لصديقتها وجارتها أم سامي لعلها تخرج للعمل معها في حقل زوجها الذي يتعاون بزراعته مع زوجته وأخواته وأبناءه.
رحب أبو سامي بعمل الحاجة محبوبة واعتبر موقفه واجباً وليس مساعدة.
كانت تأخذ الحاجة معها للحقل ابنيها في طفولتهما إذ أنها لم تفرق بينهما بالعطف والحب والحنان والطعام والشراب والملبس، ولم يعرف رفيق له أماً غيرها كما محمد.
مرت الحياة قاسية جداً على العائلة في غياب معيل الأسرة الصغيرة وكانت الحاجة تقوم بعمل البيت لجانب رعاية الطفلين وتربيتهما.
ربت الحاجة محبوبة طفليها على الدين والخلق وحب الله ورسوله والوطن وعشق كل حبة تراب وقطرة ماء فيه.
لم يستطع رفيق استيعاب سبب اختلاف الأسماء بينه وبين أخيه الذي ظهر رسميا في سجلات المدرسة وحين عودته بكى لامه وسألها:
- لماذا اسمي يختلف عن محمد يا أمي، فينادونه بمحمد إبراهيم وينادوني برفيق نصر العسقلاني.
كانت محبوبة تنتظر لحظة الوعي لرفيق لتخبره بالحقيقة وحينما أتت الفرصة لم تخفيها عليه.
- اسمعني جيداً يا رفيق، أنت يا بني روحي التي أحيا بها ومهجة قلبي وكل سعادتي ومحمد أكثر من أخيك، ونحن لنا قصة يا حبيبي كما لك قصة ويجب أن تعرفها.
لقد كان أبو محمد صديق لأبيك، وأبوك يا حبيبي كان بطل يشهد بإخلاصه وصدقه وتضحيته ولقد استشهد أبوك وهو يدفع عنك وعن أمك خطر الموت ووقتها كانت أمك لا تأبه بنفسها لحمايتك حتى استشهدت وهي تضمك إلى صدرها وتحرسك بذراعيها وتضحي بروحها حتى لا يطالك أذى، وجميعهم يا بني استشهدوا وهم عائدون بك من المستشفى.
فهم رفيق قصة والديه وعمه واحتفظ لأمه محبوبة في نفسه عظيم التقدير والمحبة مع كل يوم يكبر فيه برعايتها.
اتفق محمد ورفيق أن يتعرفا على مكان استشهاد والديهما وأن يكتبوا شاهداً باسمهم كتذكار. فجمع الأخوان عدداً من الصخور الصغيرة ورتبوها بشكل متناسق ووضعوا عليها تذكار الشهادة الذي رسموه بأياديهم وتعاهد الأخوان على تكرار زيارة المكان وقراءة القرآن على أرواح محبيهم.
عملت الحاجة اثنتا عشرة عاماً في حقل أبى سامي وفي مساء يوم شديد الحرارة شعرت الحاجة بدوران وسقطت على الأرض، فنقلها أبو سامي وزوجته إلى المستشفى وكانت المفاجأة حينما أعلمهم الطبيب بإصابتها بمرض يستوجب راحتها التامة وكتب لها علاج لا بد من أخذه على الدوام.
تعافت الحاجة محبوبة من مرضها وهمت للعودة لعملها إلا أنها تعرضت لنفس الموقف.
فهم الطفلان محمد ورفيق حالة والدتهما ورفضا خروجها للعمل بعد ذلك.
كانت الحاجة تشفق على ابنيها التي حلمت بتعليمهما، فخشيت عليهم الأيام المقبلة – فلا زالا لم يصلا للعمر الذي يجعلهما أهلاً لمصارعة الحياة.
- قال محمد : لا عمل لك بعد اليوم يا أمي – فنحن كبرنا ونستطيع الاعتماد على أنفسنا وإذا حصل لك شيء بعد اليوم فلن نرحم ونسامح أنفسنا.
كبرياء الحاجة محبوبة يجعلها تتجرع مرارة عمل أحد أبناءها على أن لاتكون محلاً للصدقة أو أن تمد يدها لأحد، حسم الطفلان الموقف مع أمهما التي بكت شفقة عليهم.
وكانت المواجهة الحقيقية بين محمد الذي رأى نفسه رجل البيت والأولى بهذه المسؤولية لأنه الأكبر، وما بين رفيق الذي اتضحت عليه ملامح الرجولة والشهامة وحب الآخرين فمنذ سماع قصة والديه من الحاجة اكتسب أخلاق التضحية وانتظر الفرصة لاثباتها.
- كان الموقف في غير صالح رفيق فهو الأصغر ولكنه أقسم على رد الجميل لأمه ومحمد وقال لأخيه أنت متفوق في الدراسة يا محمد وأمك تحلم بأن تكون طبيباً وإذا كنت تحب أمك فعليك بتحقيق حلمها لتعالجها، ألا تريد علاج أمك؟؟
- رد محمد – بلى، سأعالجها بالمال الذي أجمعه.
- قال رفيق : إذا كنت تقصد توفيره من السوق فكلانا يستطيع، لذا عليك الاعتناء بدراستك.
رفض محمد محاولات رفيق واعتبر أن الأمر لا يحتاج للمزيد من النقاش وفي اليوم التالي تناول خرقة من القماش ووعاء وبدأ يمسح زجاج السيارات على الطرقات.
ذهب رفيق لأبى سامي وطلب أن يعمل مكان أمه في الحقل، لم يتوانى أبو سامي في الرد وهو يعلم حاجة العائلة ويقينه برفض أي مساعدة ممكن أن يقدمها للحاجة محبوبة لعزتها وكبريائها.
بعد أسبوع من العمل للطفلين عاد محمد ومعه طلبات البيت ودواء أمه، وبقدر فرح الحاجة بموقف الوفاء والحب من ابنها بقدر الحزن والشفقة على قدره في الحياة.
وبعد ساعة عاد رفيق ومعه حاجيات أخرى للبيت وعلبة دواء ثانية لأمه.
- سالت الحاجة محبوبة – ما هذا يا رفيق ولماذا تأخرت؟؟
- لقد وجدت في طريقي مبلغاً من المال فأحضرت لك الدواء وتلك الحاجيات.
- أنت تكذب يا رفيق وأنا لم اعهد عليك الكذب.
دخلت الحاجة لغرفتها وأحضرت إنذارين غياب لمدة أسابيع من المدرسة لرفيق ومحمد وقالت:
- أنت لا تذهب للمدرسة يا رفيق وإنذار الغياب باسمك يثبت ذلك.
اقتربت الحاجة من ابنها وضمته إليها ومسحت دموعه وقبلته وقالت : أنت تعمل يا رفيق أليس كذلك؟؟
نعم يا أمي، فأنا عملت مكانك في حقل أبى سامي.
تدخل محمد غاضباً وأنا لست رجلاً في نظرك يا رفيق ؟؟
بالعكس يا أخي ولكني أقسمت وعاهدت الله أن لا اذهب للمدرسة وأعمل حتى تشفى أمي التي لم تتركني عندما تركني الناس.
عانقت الحاجة محبوبة ولديها على موقفهما وشعرت بثمرة تعبها والفخر بأبنائها.
نزل محمد مكرهاً أمام عناد رفيق وإصراره وعاد للمدرسة واهتم بدراسته وطموحه بالحصول على شهادة الطب أملاً في علاج أمه.
بدأ رفيق يصارع الحياة بكل قسوتها فتارة تصرعه وأخرى يصرعها تهزمه جولة ويهزمها جولات فقد عمل مع جيرانه مكان أمه عدة سنوات كانت خلالها الحاجة محبوبة تُقَوِّى عوده وتكسبه تجربة الحياة، لم تتركه وحيداً في هذه المحنة بل تواسيه بعد عمله وتقوِّم سلوكه وتربيه على معاني التضحية والكرم ومحبة الآخرين فنشأ كريماً محباً لغيره ويشعر بهم فكان مثلاً لأبناء جيله في القرية، ولم تشهد عليه القرية مشكلة مع أحد وعُرِفَ بين الناس بحسن خلقه وسلوكه ودينه- وكلما ضاقت عليه الدنيا ذهب إلى المسجد الأقصى وفيه كان يفر إلى الله ثم إلى قلب أمه الحاجة التي تخفف عنه وتسانده.
لم يخسر رفيق فرصة التعليم بكاملها فكان يجلس مع أخيه محمد ليلاً ويدرس في كتبه ويسأله، فلم ينقطع كلياً عن التعليم والمطالعة.
كان رفيق يعطي أجرته التي يتلقاها من أبى سامي لوالدته التي تقوم بتدبير البيت والدواء واحتياجات ولديْها فلم تسأل طيلة تلك السنوات أحداً.
بدأت تظهر على رفيق ملامح الرجولة فتغير صوته واكتمل جسمه، فكان شاباً وسيماً جميلاً ناعم الشعر يميل إلى الحمرة، بعينين عسليتين وبشرة بيضاء، متوسط الطول والجسم.
وفي ذات يوم نادت عليه الحاجة محبوبة- ما شاء الله- الله يحرسك ويحميك فلقد كبرت وأصبحت رجلاً يا رفيق.
خجل رفيق واحمر وجهه وابتسم في وجه أمه وقال:
لولاك وفضلك لما أصبحت كذلك يا أمي.
أجابت أمه: بل لولاك لتصدق الناس علينا يا بني.
كان الحديث في نظر الحاجة محرجاً مع رفيق ولكنها كانت مضطرة له اضطرارها لعمله.
- تعرف يا بني لماذا عملت في حقل جارنا أبو سامي قبل مرضي؟؟
- نعم يا أمي، لأنك بصحبة زوجته وأخواته وبناته.
- وتعلم لماذا اليوم أنت بحاجة لعمل آخر؟؟
أدرك رفيق مقصدها وقال معك حق يا أمي – يجب عليَّ أن ابحث عن عمل أّخر، فبنات أبى سامي من جيلي الآن.
- يسلم فمك وعقلك يا رفيق أنا اعلم أن الأمر صعب عليك ولكن كن مع الله سيكون الله معك.
ذهب رفيق إلى جاره أبى سامي فشكره على مساندته طوال السنين الماضية واستأذنه للبحث عن عمل آخر.
شكر أبو سامي رفيق على وعيه وحسن تصرفه ودعا له. وفي صباح اليوم التالي نهض رفيق مبكراً فصلى الفجر وتناول فطوره من يد والدته التي دعت له فقبل يدها وذهب.
ذهب رفيق عشرات المحلات والمصانع باحثاً عن عمل دون جدوى، لم يهتم رفيق بنفسه أو يلتفت لتعبه في ذلك اليوم فكرر المحاولة مرات عديدة ولكن دون فائدة وأثناء تجواله في السوق التفت لبعض الباعة المتجولين والذين يبيعون الفاكهة والخضار في أماكن غير ثابتة على جوانب شارع السوق فعاد للبيت.
- يا أم محمد- الله يعطيك العافية يا بني متى رجعت؟؟ وماذا حدث معك؟؟
- لم أجد عملا يا أمي ولكني أفكر أن اخذ الفاكهة والخضار من حقل أبى سامي وابيعه في السوق.
- بالتوفيق يا رفيق- فكرة جيدة.
صنع رفيق حاملاً صغيراً واشترى ميزاناً وأكياساً وبدأ العمل في سوق المدينة.
نجح رفيق في عمله وداوم عليه أسابيع كان خلالها محمد يستعد لامتحانات الثانوية العامة وفي أحد الأيام ذهب رفيق إلى السوق وبعد ساعات معدودة قامت البلدية بصحبة الشرطة بكتابة مخالفات وفرض غرامات مالية على كل من يبيع خارج المحلات المرخصة، وهددت بسجن كل من يخالف في المرات القادمة.
لم يقتنع رفيق بفكرة ترك عمله لهذا السبب فداوم عليه، وإذا بالبلدية والشرطة تقتحم السوق وتسجن كل مخالف وقبل وصولهم إليه ترك مكانه وبضاعته وغاب عن العين حتى لا يسجن.
اعتبر رفيق أن اليوم الثاني محاولة أخيرة للبلدية والشرطة لتطبيق القانون الجديد وفي اليوم الثالث عاد رفيق لرزقه كما كل يوم وإذا بالشرطة فوق رأسه فقيدوا يديه ونقلوه للسجن.
علمت الحاجة محبوبة بسجن رفيق فلم تقوى على حمل جسدها فانهارت من مفاجأة الصدمة- اعتنى الجيران بالحاجة فأعطوها الماء والدواء حتى حضر محمد الذي أسرع إلى مركز الشرطة لرؤية أخيه.
طلب الضابط من محمد كتابة تعهد خطي على عدم العودة للعمل بهذه الطريقة واستطاع تحرير أخاه بكفالة مالية.
عاد الأخوان إلى البيت ولم يهتم رفيق بكل ما حصل فكل ما يهمه هو عمل الغد وتوفير لقمة العيش والدواء للوالدة والبيت.
اطمأنت الحاجة على ابنها فعانقته وقبلته وأعدت له الطعام.
هَدَّأَتْ الحاجة محبوبة روع ابنها على رزقه وان الله لن يتركه.
شعر رفيق بالقلق في ليلته وهو يفكر بحاله وغده فقام وتوضأ وصلى ركعتين حاجة لله عز وجل وتوكل عليه ونام.
وفي الصباح ذهب يبحث عن عمل وإذا بفتاة صغيرة تحمل في يدها عدداً من الصحف وتضع أمامها صندوقاً مليئاً بأنواع التبغ.
- توجه إليها وسألها: تسمحين لي السؤال؟؟
فأومأت له بالموافقة، فقال : يمكن أن يعيش المرء بهذا العمل؟؟
- فقالت : ليس في كل الأيام.
- فقال: وما يجبرك على هذا العمل؟؟
اجابت : أنا وحيدة لأب عاجز لا يرى وأمي توفت في مولدي وأعمل لأوفر قوت يومنا.
- وفجأة قاطعهم أباها، من هذا الذي تتحدثين معه يا منال؟؟
- شاب يريد الشراء يا أبي.
عرف رفيق اسم الفتاة وأخرج مبلغاً من المال وطلب صندوقاً من التبغ وسأل الفتاة:
- هل تعملين يومياً في هذا المكان؟؟
- أجابت منال : نعم.
لم يضع رفيق طوال حياته سيجارة واحدة في فمه، وكانت الحاجة محبوبة دوماً تنصح ولديها بمضار التدخين، وأثناء عودة رفيق لبيته سارحاً يفكر في ظروف منال المشابهة لظروفه ومكافحتها للحياة صادف رجلاً يعمل في النظافة وفي يده سيجارة فطرح عليه السلام وناوله علبة التبغ.
وفي اليوم الثاني خرج رفيق مبكراً يبحث له عن عمل، فدخل مصنعاً كبيراً للخياطة وسأل مديره:
- هل تحتاجون لعمال؟؟
- فقال المدير : مع كل الأسف، لا لأن المصنع يقتصر على البنات.
- فسأله رفيق : وإذا حضرت بنت فهل يمكن أن تعمل؟؟
- أجاب : يمكن تعليمها بأجر بسيط في البداية ثم ترتقي بقدر تقدمها.
ذهب رفيق إلى المكان الذي صادف فيه منال فوجدها بصحبة أبيها الضرير فطرح عليهم السلام ، فأجاب الشيخ :
- وعليكم السلام، من تكون؟؟
- أنا ابن الشهيدين على مفترق القرية قبل خمسة عشر عاماً وابن الحاجة محبوبة واسمي رفيق.
- أهلاً وسهلاً يا بني ، تفضل.
ماذا تأمر ؟؟
- كنت ابحث عن عمل بسبب ظروفي الصعبة فتعسرت الأمور في وجهي وعلى علمي أن ظروفكم لا تختلف كثيراً عن ظروفي ولأن عمل منال في الشارع غير لائق لها فأنا أعرف مصنعاً للخياطة يمكن أن تتعلم فيه ثم ترتقي بقدر كفاءتها ومن ناحيتي يمكن استئجار الصندوق بما فيه ، فما رأيك؟؟
- الرأي لمنال يا ولدي.
- وافقت منال على فكرة رفيق فذهب الثلاثة إلى مصنع الخياطة وهناك داومت على عملها ووسع رفيق عمله في بيع المزيد من أنواع الصحف والمجلات والتبغ وأنواع أخرى من الحاجيات المطلوبة.
شكر أبو منال صنيع رفيق وأثنى عليه واحتفظت هي في قلبها له حباً على مبادرته واهتمامه وحرصه عليها.
فكان رفيق يطمئن عليها وعلى أبيها ما أمكن له ذلك.
كانت أسعد الأيام على الحاجة محبوبة حينما سمعت بنجاح ابنها محمد في الثانوية العامة وحصوله على معدل يؤهله لدراسة الطب في جامعة أردنية.
أدرك محمد أن ظروف الأسرة لا تحتمل انتسابه لكلية الطب فتشاور مع أمه وأخيه أن يدرس في جامعة فلسطينية توفيراً للمال وتفهماً لأخيه.
- توكل على الله يا بني، الله يوفقك وينجحك.
- وقف رفيق غاضباً، أي جامعة تلك التي تتحدث عنها، فسابقاً أقسمت والآن أجدد أنك ستسجل في كلية الطب وستحقق طموحك بعلاج الحاجة أم نسيت؟؟
- أنا لم أنسَ يا رفيق ولكن...!!
- لكن لماذا، ألم تر في أخيك رجلاً ولم تثق به؟؟
- أعوذ بالله يا رفيق فأنت رجل وسيد الرجال ولكن دراسة الطب والغربة تحتاج لتكاليف عالية ومطالب كثيرة وأنا اعرف ظروفنا.
- لا تقلق يا دكتور ومن الغد اذهب إلى مكتب التسجيل وجهز أوراق السفر وستصلك كل احتياجاتك قبل أن تطلبها.
- عانق محمد أخاه على موقفه ورجولته وتضحيته واعتبر الأمر ديْن عليه طوال حياته.
تحدث رفيق مع والدته وأخيه محمد عن منال وظروفها فشعرت الحاجة محبوبة باختلاط المشاعر عند رفيق والتي حملت الحب والود والإعجاب في تقييم منال.
طلبت الحاجة من رفيق التعرف عليها فإذا بها فتاة في قمة الجمال والرقة والسحر بجانب الخلق والدين. فهي فتاة صابة ومحتسبة ومكافحة ومتحجبة ومتزنة وهادئة في كلامها.
أومأت الحاجة لمنال بأن رفيق يميل إليها وأنه طلب التعرف عليها وسألتها عنه فابتسمت وسكتت واحمرت وجنتيها وإذا بابي منال يدخل البيت.
- هل تعرف من عندنا يا أبى؟؟
- حلت البركة علينا فأهلاً وسهلاً بكل من زارنا.
- إنها أم رفيق يا أبى.
- أهلاً وسهلاً بأم الرجال فهذه هي التربية والأخلاق يا حاجة أسأل الله أن يحفظه لك ولن ننسَ معروفه معنا.
- قاطعته أم محمد قائلة : وهل يمكن أن نكون عائلة واحدة يا أبا منال.
- وهل هذا سؤال يا أم محمد وهل سنجد أفضل منكم فأنتم نعم الأهل والناس.
- وهل تعلم بقصة رفيق؟؟
- نعم وأتذكر ذلك اليوم الذي خرجنا فيه إكراماً للشهداء.
- ولكن رفيق ومنال صغار في السن، لهذا سنؤجل هذه الموافقة لميعادها في المستقبل.
قال الشيخ : على بركة الله.
عادت الحاجة محبوبة تحمل البشرى لابنها رفيق الذي استقبل الخبر بالمزيد من السعادة والفرحة والرضا من صنيع أمه التي فهمته.
في تلك الليلة أحضرت الحاجة أمانة رفيق ووضعتها أمامه،
- سأل رفيق : ما هذا يا أمي ؟؟
- أجابت : إنها حقك يا بني.
- عن أي حق تتحدثين يا حاجة؟؟
- الأمانة التي تركها المختار في عهدتي إليك حتى تكبر، فهذا ذهب أمك والمال ثمن السيارة والبيت.
- قال رفيق : إذا كان هذا حقي بعد هذه السنين، فما هو حقك أنت يا أمي ؟؟
- حقي أخذته مما تعانيه ومما ستعانيه في الأيام المقبلة يا رفيق.
- تناول رفيق ذهب أمه واخذ يقبله ويبكي وقال:
هذا لن أفرط به يا أمي وسأجعله شبكة منال حين كتب الكتاب- أما هذه النقود فاحتفظي بها معك لحاجة الأيام.
بارك محمد لأخيه وشاركه سعادته ثم أكمل أوراقه وما هي إلا أيام حتى ودع بالدموع والبكاء والحزن أمه وأخاه ثم سافر.
كانت مصروفات الجامعة في كلية الطب عالية رغم أن محمد عاش حياة تقشف تخفيفاً على أخيه فكان يذهب مسافة طويلة من سكن الطلبة إلى حرم الجامعة سيراً على الأقدام، ويكفيه الحد الأدنى من المأكل والملبس ومع هذا فالاحتياجات الأساسية من رسوم الجامعة والكتب كانت أكبر من طاقة رفيق ودخل عمله.
اضطرت الحاجة بضغط من رفيق أن تبعث لأخيه من المبلغ الذي احتفظت به حتى أوشك على الانتهاء؟
كان رفيق يخرج لعمله من فجر اليوم حتى نهايته ومع مرور الأشهر احتاج للمساعدة وشعر بالعسر وضيق الحياة.
قدمت الحاجة محبوبة لابنها الطعام بعد عودته من العمل ورأته مهموماً لعدم قدرته على توفير القسط الجامعي الذي طلبه أخوه أثناء تعليمه فشعرت بضيقه وحملت همه وقالت :
- أنصحك يا رفيق بترك بيع التبغ ليفرجها الله عليك فأنت يا بني تعمل بشيء فيه شبهة ورزقه عسير.
- لم يناقش رفيق أمه وأخذ يفكر في غده ثم صلى ركعتين لله وقرأ ما تيسر من القرآن وتوكل على الله ونام.
وفي الصباح ، أثناء بحثه عن عمل جديد عملا بوصية الحاجة محبوبة صادف عدداً كبيراً من طلاب المدارس يتجمهرون حول بائع متجول على عربة يبيع (السندوتشات) والقرطاسيات.
قرر رفيق أن يصنع عربة متنقلة وبها صندوق زجاجي فوضع فيها احتياجات الطلبة من الأدوات الدراسية وبعض الأطعمة والمشروبات والحلوى ووقف أمام مدرسة أخرى ثانوية.
توفق رفيق في عمله واستطاع أن يجمع لأخيه احتياجاته وقسط الجامعة الذي تأخر عنه قليلاً.
وما هي إلا أربعة شهور حتى تم فتح مقصف داخل المدرسة فأنزلت الإدارة على طلابها أمراً بعدم شراء شيء من غير مقصف المدرسة فتوقف عمل رفيق الذي ذهب لسوق المدينة واشترى قطعاً من التحف كالجمال والعقود والسلاسل وأشكالاً أثرية وقصد أفواج السائحين الذين يؤمون المدينة من متعبدين وزائرين من فلسطين وخارجها.
دخل الفلسطينيون بانتفاضتهم المباركة أملاً بالحرية والدولة والاستقلال، فصنعوا بالحجر معجزة التاريخ وتحدوا بإرادتهم وعزيمتهم كل إمكانيات العدو وقدراته العسكرية
شارك في الانتفاضة كل قطاعات الشعب الفلسطيني موظفيه وطلابه وعماله ونساءه وشبابه وشيوخه وأطفاله واندلعت المظاهرات في كافة أرجاء الوطن وتجسدت البطولة والأسطورة في مخيماته. قدم خيرة أبناء الشعب الفلسطيني أرواحهم في سبيل الله والوطن فاستُشهِدَ واعتُقِلَ وجُرِحَ في الانتفاضة الآلاف وهُدِّمت وأُغْلِقَت مئات البيوت وعم الفقر نسبة كبيرة من أبناء الشعب الصامد والصابر والبطل دون أن يكل أو يمل أو يشكو أو يتعب وواصل انتفاضته المباركة بشموخ وكبرياء وأصبح مثلاً عالمياً للتضحية والفداء.
عاش رفيق مذبحة الأقصى المبارك في أكتوبر والتي ذهب ضحيتها أكثر من عشرين شهيداً دفاعاً عن الأقصى والحرم والصخرة وجرح المئات في المواجهات واشتعلت على أثرها كل فلسطين ناراً وغضباً فزاد عدد الشهداء والجرحى وخرج عشرات الفدائيين بأرواحهم للانتقام فلم تبقى أداة للجهاد إلا استخدموها.
أدرك العدو قيمة القدس في قلب المسلمين عامة والفلسطينيين خاصة فهي أغلى من الروح لأنها في قلب القرآن الخالد وآية من آياته التي يقوم بها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها في صلاتهم قلب الليل وفلق الصبح. فالقدس مهبط الأنبياء وأرض الرسالات والأديان ومركز الحضارات وفي قلب الأرض الطيبة التي باركها الله وهي أرض المحشر والمنشر وأرض الإسراء والمعراج وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين فنزلت فيها الآيات القرآنية وتم ذكرها في الأحاديث النبوية وبقيت معياراً لعلو القوى العظمى ومحط أنظار الطامعين والمحتلين.
خفت السياحة في المدينة المقدسة على أثر الانتفاضة الأمر الذي اضطر رفيق لتركم عمله في بيع التحف والبحث عن عمل آخر.
كانت الحاجة محبوبة تساند رفيق في كل محطات حياته ولم تتركه للحظة يأس وفقدان أمل فكانت تقويه وتشد من عزيمته وتحميه وتتفاءل له بمستقبل مشرق وتذكره بقول الله تعالى " فان مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا " (الشرح 5+6).
كان رفيق قليل اللقاء مع خطيبته منال ولم يكن يقصدها إلا ليسأل عن حالها وحال والدها وعن عملها واحتياجاتها، لم تكن اللقاءات تحمل مشاعر عشق وحب بقدر المصارحة في أمور الحياة والهم المشترك والتغلب على قسوة الدنيا ومصارعتها.
كان يزرع في قلبها بذور الأمل في المستقبل الجميل ويردد وصايا الحاجة محبوبة بزوال ساعة العسر وأن الدنيا ستفتح اليهما بذراعيها.
عاد رفيق للبيت بعد مقابلة خطيبته التي حمَّلته أمانة السلام للحاجة فجلست معه أمه وصارحته
- هل تقابل منال يا رفيق؟؟
- قليلاً يا أمي.
- وهل تحبها بحق؟؟
- أجاب رفيق نعم.
- إذا كان كذلك ألا تخاف عليها؟؟
- من ماذا يا أمي؟؟
- من كلام الناس يا بني، نعم نحن اتفقنا مع أبيها أن تكون من نصيبك ولكنك بدون كتاب رسمي في نظر الناس، أنت غريب عليها فإما أن لاتقابلها أو تكتب عليها.
- قال رفيق : وفي مثل هذه الظروف يا أمي؟؟
- الأمر يحتاج لذلك يا ولدي فهي في المستقبل زوجتك وحمايتها من حديث الناس يهمك وحماية لك ولأبنائك.
اقتنع رفيق بحديث أمه واتفق مع منال على موعد الخطوبة فقدم ذهب أمه الذي يمثل أغلى ذكرى على قلبه مهراً لها في يوم إعلان الخطوبة.
كان هذا أجمل يوم في حياة رفيق ومن أسعد اللحظات التي مرت على الحاجة محبوبة وهي ترى ابنها رجلاً يحقق أمانيه مع من اختارها بنفسه واقتنع بها ليس إلا لأنها مكافحة ومحافظة ومن مستواهم الاجتماعي وتعيش مشاعرهم وهمهم وتتفهم حياتهم وترضى بمعيشتهم.
زادت لقاءات رفيق مع محبوبته بعد الخطوبة فتحدث عن المستقبل وتغلبا على مشاق الحياة رغم بحر آلامها.
- تعاطفت الشعوب العربية مع الانتفاضة المباركة وتضامنت مع أبطال فلسطين في جهادهم وعطاءهم، وكانت أكثر النشاطات تُقام في الجامعات بمبادرة الطلاب الفلسطيين في الشتات.
كانت انتصار تلميذة مجتهدة في الدراسة واعتنى بها أخوالها لتحقيق حلمها فكبرت على عيني والدتها لطيفة التي لم تتزوج وعاشت لها فربتها على الأخلاق الحميدة وتحدثت لها عن أبيها الشهيد الذي فضل العودة لفلسطين استجابة للواجب على متاع الحياة الدنيا.
افتخرت انتصار بأبيها وحملت رسالته بقدر استطاعتها فشاركت في مهرجان الشهداء الذي تقيمه الجامعة تضامناً مع الشعب الفلسطيني وكانت تحمل فيه صورة أبيها.
شاهد محمد انتصار في المهرجان فتبادلا بعض الكلمات كونهما زملاء في نفس كلية الطب حيث أنها تدرس العلاج الطبيعي ومتفوقة في تعليمها.
تكررت اللقاءات ما بين محمد وانتصار وتعرفا على بعضهما ومال أحدهما للآخر ولكن محمد كان يتحامل على نفسه ومشاعره ويحصر العلاقة بالزمالة في العلم لأنه كان يعرف إمكانياته ولا يريد أن يضيع أوقاته واهتمامه وتفكيره في أي شيء غير التعليم وفاءاً لأخيه الذي ضحى بنفسه وراحته وسعادته لأجله.
اضطر رفيق لأن يعمل عتالاً في سوق المدينة الضيق فحمل للتجار بضائعهم من متجر إلى آخر وللمشترين مشترياتهم الثقيلة من داخل السوق إلى موقف السيارات وكان يعمل طوال وقته لا يعرف الراحة، ويتعرض للخطر وهو يزاحم السيارات بدراجته الكبيرة.
كانت الحاجة محبوبة تبكي ليلها شفقة على رفيق الذي عاش يتيماً من الأم والأب والعائلة والذي فقد تعليمه وكل راحته فكانت تنظر لأبناء جيله الذين يهتمون بأنفسهم وملابسهم ونزهاتهم ومدارسهم ومع هذا لم تسمع من رفيق إلا ما يرضيها ويخفف عنها ولا يرى في تضحيته مناً ولا أذى بل كان يشعر بمسئوليته أمام أمه وأخيه ومنال.
- شعر رفيق بالتعب وهو يحمل حملاً ثقيلاً على صندوق دراجته في آخر اليوم وما هي إلا لحظات حتى فقد سيطرته عليها فمالت واصطدمت بسيارة مسرعة في منتصف الشارع.
لم يستطع الطرفان تلاشي الحادث فتبعثرت البضاعة التي يحملها على عرض الشارع وحذفت السيارة رفيق أمتاراً أمامها. نزل صاحب السيارة إلى رفيق مسرعا بعد أن أوقفها بصعوبة والتفت المارة حول رفيق الذي انكسرت ساقه وسال دمه من يديه ورأسه وبعض الجروح في جسده، حمل السائق رفيق مسرعاً إلى المستشفى وكانت تظهر عليه ملامح القلق والخوف على حياة رفيق.
شعر رفيق بالسائق الذي لم يتركه في محنته ولم يقصر معه بمتابعة الفحوصات والأطباء وبعد ساعات جاءت الشرطة فاستجوبت الطرفين فبرأ رفيق ساحة السائق من أي حق وشكره على جميل صنيعه معه.
تفاجأ السائق من تصرف رفيق وأخلاقه واحب أن يتعرف عليه.

انتهى الجزء الأول من رواية
الشتات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صمود رغم الحدود والقيود
عضو ماسي
عضو ماسي
صمود رغم الحدود والقيود


عدد المساهمات : 297
نقاط : 752
تاريخ التسجيل : 21/02/2011

 رواية الشتات / للأسير المحرر رأفت  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية الشتات / للأسير المحرر رأفت     رواية الشتات / للأسير المحرر رأفت  Icon_minitimeالإثنين يناير 23, 2012 12:19 pm

الجزء الثانى من رواية
الشتات

تأليف
رأفت حمدونة
سجن بئر السبع

- الحمد لله على السلامة يا بني وبارك الله فيك على أخلاقك ومبادرتك فمن أنت حتى نبلغ عائلتك؟؟
- اسمي رفيق نصر العسقلاني- لاجئ من المجدل وأسكن مع أمي الوحيدة والمريضة بجانب سوق المدينة، ولا يهمني ما أنا فيه بل ما سيصيب أمي حينما تراني.
- لا تقلق يا بني فأنا أبو يوسف أعمل تاجر جملة في مواد التموين وسأذهب للطبيب حتى يسمح لنا بإعادتك لبيتك.
أحضر أبو يوسف تصريح خروج لرفيق بعد أن تعالج وأخذ الأدوية وأعاده للبيت.
كانت الحاجة تنتظر عودة رفيق بفارغ الصبر، فلقد تأخر كثيراً عن موعده فبرد الطعام الذي أعدته له وجلست على درجات البيت ترتقب خياله من بعيد وتقرأ القرآن وتتعوذ من كل شر وسوء.
وصلت السيارة إلى باب البيت الصغير والقديم واتكأ رفيق على كتف أبي يوسف الضعيف والمثقل بالمرض والتعب والقلق ونزل من السيارة فرأته الحاجة محبوبة التي هرولت باتجاهه تملأها المفاجأة والرهبة والهلع.
- حمداً لله على سلامتك يا بني ما الذي حصل لك؟؟
- طمئنها أبو يوسف : لا تخافي يا حاجة سليمة والحمد لله.
- استدركت الحاجة محبوبة نفسها أمام الضيف وتمالكت نفسها وساعدت ابنها المكسور ووضعته على سريره.
عرف رفيق أمه الحاجة على الضيف وشرح لها ما حدث وما قام به أبو يوسف في علاجه ومتابعته فشكرته الحاجة وقبل أن يتركهم أخرج أبو يوسف مبلغاً من المال مقابل الدراجة والبضاعة التي تناثرت وما يكفي للبيت حاجته في مرض رفيق.
نظر رفيق إلى الحاجة التي ابتسمت وقالت لأبى يوسف :
- بارك الله فيك ونشكرك على صنيعك ولكن ما حصل هو قضاء وقدر والحمد لله على كل حال.
- ولكني يا حاجة فهمت ظروفكم من رفيق فأنا أقدم واجبي فغير رفيق قد يطمع بي وينتقم مني وأنا والحمد لله ميسور الحال.
- قالت الحاجة : الله يوسع عليك رزقك ويبارك لك فيه فنحن أيضاً في حال مستور.
استأذن أبو يوسف من أصحاب البيت الذي رأى فيهم أصالة السلوك وحسن أخلاق التعامل وكل القيم الطيبة والحسنة.
ارتاح رفيق من رد أمه التي زرعت فيه هذه المبادئ منذ الصغر فتربى على الكرم والتضحية والمسامحة.
علمت منال بحادث رفيق فأسرعت بصحبة والدها إلى بيت الحاجة لتطمئن على خطيبها.
كانت منال تأتي لبيت الحاجة كل يوم بعد عملها فتقضي له كل حاجاته وتساعده في طلباته وتخفف عنه آلامه وأحزانه وتملأ ساحة البيت بالبهجة والبسمة والحياة ولم يشعر رفيق بالفراغ والملل طوال وجود منال بجانبه.
كانت تعلم كل ظروف رفيق وحاجته للمال في تعليم أخيه ودواء أمه وحاجة البيت وكانت تعلم عزة نفس رفيق وكبرياءه وبلعثمة بغياب الحاجة محبوبة أخرجت له مبلغاً من المال ادخرته لنفسها وسألته :
- كم مرة وقفت معي وأبى يا رفيق؟؟
- لم أفهم عليك يا منال ماذا تقصدين؟؟
- بصراحة أنا أكثر الناس معرفة بأحوالكم وقعودك في البيت سيؤثر على أخيك وأمك وخيرك سابق على وعلى والدي فأنا وأنت واحد يا أقرب الناس إلى قلبي أن تقبل مني هذا المبلغ لتفك ضيقتك وبابتسامة رقيقة وبريئة قالت له :
هذا المبلغ دين عليك يا رفيق حتى تتحسن ظروفك.
- كبرت منال في عيني رفيق وتيقن من حسن اختياره وسعة نصيبه ونعمة الله عليه وقال لها :
- أقبلها إذا قبلت معه هدية بمقداره.
وقبل أن تجيب طرق باب البيت فأسرعت منال لتفتحه وإذا بأبي يوسف يحمل بعض الهدايا بصحبة زوجته.
كان الحادث باب خير على رفيق رغم كرهه له وأدرك فيما بعد قوله تعالى " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم " ( البقرة 216 ).
فنشأت علاقة اجتماعية بين العائلتين وتعرفت الحاجة محبوبة على زوجة أبى يوسف وعلمت أن زوجها ميسور الحال وغني وله ثلاث بنات ولم يرزق بولد ويقال له أبو يوسف على اسم والده وأنه مريض بالقلب ولا يقوى على مزاولة عمله.
قويت العلاقة بين رفيق وأبى يوسف وعرف الطرفان عن بعضهما كل شئ.
- قال أبو يوسف : أنا بحاجة لشاب نشيط وطموح وأمين وثقة ورجل مثلك في عملي يا رفيق ، فلقد رزقني الله الكثير من المال ولم يرزقني بالولد الذي يساعدني ويساندني في عملي ويشهد الله أني أراك مثل ولدي وأطلب منك أن تعمل معي في مخازني وسأعطيك ما يرضيك وفي المستقبل سوف اجعل لك نسبة من العمل وليس عاملاً فحسب فما رأيك؟؟
- أجابه رفيق : سأعطيك ردي بعد مشورة أمي الحاجة يا أبا يوسف .
ركب أبو يوسف وزوجته في سيارته الفاخرة وودعت منال الحاجة وخطيبها وجلس رفيق مع أمه ووضعها في صورة طلب أبي يوسف وطلب منها رأيها.
- قالت الحاجة : نعم أنت بحاجة لعمل يا بني ولو أني أعلم أن طلبه منك هو صدقة أو مساعدة وتعاطفاً معنا وليس حاجة له كما فهمت من زوجته لما رضيت بهذا العمل فتوكل على الله يا رفيق وفرحه بموافقتك.
شفي رفيق من إصابته وتعافى من كسره وكانت أولى الخطوات له بعد وقوفه باتجاه الحرم في الأقصى الشريف فصلى وحمد الله وشكره ثم ذهب إلى أبي يوسف ليبدأ معه العمل.
عانق أبو يوسف بالمزيد من الترحاب عزيزه رفيق الذي قصد تعلم العمل وقواعده، فكلاهما كان يحتاج للآخر في العمل ومساندة الحياة.
مرت أشهر قليلة ترسخت فيها الثقة والمحبة والتقدير بين الاثنين وارتقت علاقة العمل لحد الشراكة، فلقد تشرب رفيق كل تقاصيل التجارة، وتعرف على التجار واستقى خبرة أبي يوسف برضاه ومبادرته.
فتحت الدنيا ذراعيها لرفيق الذي لم يساق لملذاتها، فعلمته الحاجة محبوبة أن أيامه المقبلة أصعب عليه، فشكر النعمة أقسى من صبر البلاء وكانت تذكره دوماً بالعلاقة مع الله عز وجل وأن عليه استثمار أمانة الله في المال في أعمال الخير والبر وأن لا يبخل على المحتاج.
شكر رفيق الحاجة على نصائحها، فشعر بحاجة من حوله وتذكر حاجاته السابقة دون مغيث وتألق بسلوكه كالطير الجميل كبير الجناحين، فظهرت عليه أخلاق الكرم ومساعدة الآخرين وتحقيق مطالبهم وأحلامهم.
أخذ رفيق أمه على أفضل الأطباء وأحضر لها أحسن الأدوية فتحسنت صحتها وذهب لمكتب السفر فحجز تذكرتين للحج أحدهما لأمه والأخرى أخذها مع مبلغ من المال ليسد به ديْن منال التي لم تنساه في محنته.
وأخذ لها بعض الهدايا.
طرق رفيق باب بيت عمه الشيخ حسن ففتحت له منال الباب:
- مَنْ على الباب يا منال؟
- رفيق يا أبي.
- أهلاً وسهلاً بأعز الناس، تفضل يا بني.
أعطى رفيق خطيبته الهدايا التي أحضرها لها وشكرته على مبادرته وزيارته وبعد وقت من تبادل إطراف الحديث قد يده في جيبه وأعطى المال لمنال وشكرها رفضت منال أن تأخذ أي شئ زيادة عما أعطته- فذكرها بالاتفاق وقال لها ألم نتفق على إعادة المال وقت ميسرة مع هدية فهذه هديتي لك أما هدية عمي الشيخ حسن فتذكرة سفر للقيام بفريضة الحج.
أراد الشيخ أن يجادل رفيق ولكن دون جدوى معه، فرفيق أعلمه أن هذا شكر لله على نعمته وليس كرماً وصدقة.
رضيت منال والشيخ حسن وفرحا بصنيع رفيق الذي كان كريماً منذ اليوم الأول في التعرف عليهما.
كانت عيون رفيق تحمل حديثاً لخطيبته التي فهمته وسألته:
- أرى في عينيك حديثاً يا رفيق؟
- نعم يا منال- فأنا الآن أرى من غير المعقول أن تواصلي عملك، وإن كان ولابد فلماذا لم تعملي معي فأنا محتاج لمساعدتك في استقبال الهواتف وتدوين الملاحظات.
اقتنع الشيخ حسن بفكرة رفيق ونزلت منال عند رغبته.
ودَّع رفيق الشيخ وخطيبته ثم أخذ مبلغاً كبيراً من المال وأودعه في البنك على حساب أخيه محمد في الأردن واتصل به.
- كيف حالك يا محمد وكيف دراستك؟
- الحمد لله يا رفيق دراستي ممتازة فكيف أمي؟
- لا تقلق يا أخي فهي بخير وتدعو لك، بعثت لك مبلغاً من المال فلا تبخل على نفسك بعد اليوم، فمع أخيك بحمد الله ما يكفي لتعليم عشرة أطباء مثلك فتعلم وعش أجمل حياتك.
- الله يزيدك يا رفيق وشكرا جزيلا لك، وأسال الله أن يقدرني على رد فضلك وجميلك.
- هذا فضل الله يا محمد، فخذ بالك من نفسك ودراستك.
وعلى غير عادة دعا محمد زميلته انتصار التي تشاركه العمل الطلابي في الجامعة لشرب كأساً من العصير فسألته:
- أراك سعيداً يا محمد هذا اليوم؟
- نعم ليس إلا لتعويض الله لأخي رفيق على تضحياته.
- وهل لك أخاً اسمه رفيق؟
- نعم فهو الذي ضحى بعمره وسعادته وتعليمه وراحته من أجلي وأجل أمي، تصوري يا انتصار أنني أتحدث بالهاتف مع أصدقائي وأسال دون أن يعلم عليه فافخر بوصفهم وكثرة حب القرية صغيرها وكبيرها له.
رفيق يا انتصار حبيب الجميع حتى العجائز والأطفال ورجال القرية وشبابها.
رفيق شعر بالحرمان وعاش يتيماً وقست عليه الأيام وبكى ليله دون أن يبوح بضعفه إلا لله، كنت أراه يبكي حينما مرضت أمي ويقول لي:
أنا مستعد أن أبيع دمِّي وأعمل في أي شئ حتى ولو كان قاسياً لأوفر لها الدواء، وحينما تضيق عليه الدنيا يفر إلى الله فيهرب للمسجد والصلاة والقرأّن كلما يئس وأحبط، واليوم فتح الله عليه أبواب الرزق فبنى بيتاً واشترى سيارة وعالج أمه وعلمني وهاهو اليوم يتحدث معي ويطلب أن لا أبخل على نفسي.
قبل أيام أخبرتني أمي أن ماله ليس له وكلما صرف ديناراً أعطاه الله بدله عشراً فلم يتوانى في علاج امرأة طاعنة في السن ليس لها مصدر رزق وكان يزورها باستمرار فتدعو له وتُقَبِّل رأسه وتضمه لصدرها كأنها أمه.
رفيق مسح دمعة الكثير من الأطفال اليتامى بهداياه ورحلاته لهم فأحبوه كأبيهم فلم يجعل في نفس أحدهم شئ إلا حققه له.
رفيق ساعد معوز لم يستطع توفير مهر لمحبوبته وكادت الأيام تحول بينهما وتَبَنَّى تكاليف الخطبة والمأذون والغذاء ولم يطالب الشاب بشيء حتى تتحسن ظروفه.
رفيق يا انتصار لم يكن كريماً بماله فقط بل أيضاً بمبادراته وسلوكه وحسن تصرفه وحكمته فكثيراً ما تَدَخَل في القرية بين متخاصمين وحل المشكلة بينهما لاحترام كبار القرية له.
وكثيراُ ما صالح أب مع ابنه الذي عصاه، وزوجات مع أزواجهم، رفيق تجديه أول الحاضرين في الفرح فيضع من جيبه ما يفرح أهله ويجعل ما يقدمه هدية لهم، فيحضر الذبائح ويزين الشوارع بنفسه وسيارات الفرح ويستقبل المهنئين ويجعل من كل فرح كأنه له.
رفيق يكون أول المعزين في الترح فيخرج للمقبرة ويحضر بيديه مثوى أعزاء القرية بمشاركة أهله فكل عزاء في القرية عزاء له ويحضر الكراسي والقراء ويواسي الثكلى.
رفيق يعود الجرحى في المستشفيات وأبناء الشهداء في المناسبات وغير المناسبات ويسأل عن أهالي الأسرى واحتياجاتهم.
رفيق يساعد كل شاب مكافح في أول طريقه حتى ينجح فيمده بالخبرة والمال حتى يفرج الله كربه.
رفيق ابن الكل في القرية ويا ليتك يوماً تقابليه وتتعرفي عليه وعلى شهامته ورجولته ومواقفه.
تمنت انتصار أن تتعرف على أخ محمد زميلها لولا بعد المسافة والشُقَّة.
وتمنت كل نساء القرية ورجالها لو أنهم تبنوا رفيق في صغره حينما رفضوا عرض المختار وطلبه في تبنيه.
وحسدت كل نساء القرية الحاجة محبوبة على رفيق وأخلاقه وأحب الجميع حسن تصرفه وأفعاله .
حضرت منال لمكتب رفيق المجاور للمخازن لتساعده وكان الحب بينهما يكبر مع كل قطرة عرق من جبينه فتؤكد لها الأمان والحماية أمام هذه الإرادة والإخلاص والجدية.
كان شباب القرية يعرفون رفيق ويثقون به، وحينما كانوا بحاجة لمن يدعمهم بالمال لتوفير السلاح وتامين المطاردين في أوج الانتفاضة المباركة.
دم الشهيدين كان يتدفق في عروق رفيق الذي تمنى مثل هذا الطلب انتقاماً من قتلة والديه وعمه وكل الشهداء، كانت تلك فرصة رفيق ليثبت ولاءه وعشقه لتراب الوطن والقدس وعسقلان وكل فلسطين فاقتطع من رزقه قسطاً دائماً لدعم المقاومة، وبعد أشهر منها استشهد أحد أفراد المجموعة واعتقل عدد منها وتطارد الباقون.
شعر رفيق بالخطر حينما سجن المجاهد الذي يتصل به، فنام خارج البيت عند أحد أصدقاءه وبعد أيام حضرت قوات كبيرة من الجيش وداهمت بيت الحاجة محبوبة وبيت خطيبته والمكتب والمخازن الذي يعمل بهم فلم يعثروا عليه.
تيقن رفيق أنه مطلوباً للاحتلال فبدأت رحلة الألم معه من جديد وتنقل مطارداً من بيت إلى بيت ومن مكان إلى آخر.
قابل رفيق خطيبته التي باتت على علم بحاله وبدأ يقنعها أن تتطلع لمستقبلها بدلاً من مصيرها مع إنسان مطارد ينتظره الموت أو السجن.
بكت منال من كلمات رفيق وعاتبته:
- أنا لم أعرف ولن أتعرف ولن أكون لشخص غيرك، فأنت بطل الأبطال يا رفيق لا يُتْرَكون، فمن ضحى بنفسه وخطر بحياته، وأخلص لوطنه وشعبه سيكون حتماً أكثر تضحية من أجل زوجته وأبناءه وأكثر إخلاص لها وصدقاً معها.
إياك يا رفيق أن تردد هذه الكلمات ثانية فنحن معاً حتى ما بعد الموت ولن نفترق بإذن الله.
انتهى محمد من دراسته وودع انتصار التي أحبها وأحبته لولا ظروفهما والغربة فاستقبلت القرية ابنها الطبيب ابن الحاجة محبوبة فساند أمه المريضة كما كان يطمح قبل تعليمه وتقابل مع أخيه رفيق مرات في السر فقلق عليه وعلى مستقبله.
أصرت الحاجة محبوبة على مقابلة ابنها الذي اشتاقت له، فتعرف محمد على أصدقاء رفيق ليرشدوهم إليه، كان رفيق أكثر شوقاً لأنه وأخيه وخطيبته ، ولكنه كان يخشى عليهم من المحتلين الصهاينة الذين قد يعذبوهم أو ينتقموا منهم.
حاول رفيق قدر المستطاع أن لا يقابل أحداً حتى لا يعرض للخطر، وابتعد عن أمه أيام حتى يبعد أعين الخونة عنه، ولم يستجب لطلب أبناء القرية لاستضافته حباً فيه ووفاءاً له ولحمايته حتى لا يتعرض أحدهم لأذى الاحتلال الذي لا يرحم فيهدم البيوت ويقصف الأبرياء ويقتل المارة ويعتقل بسبب وبدون سبب.
كان البرد قارص والليل مظلم ورفيق يقضي ليله تحت مظلة بقالة مستورة عن الشارع أو داخل سيارة أو بيت مهجور أو مغارة في أحد الجبال.
لم يتعامل رفيق مع ماله كأنه لذة الحياة ومتاعها، ولم يتثاقل إلى الأرض ويبيع دينه ووطنه بدنياه بل تربى على التواضع وأوقفته الحاجة محبوبة عند أدنى شعور للميل عن الإنفاق الجميل والأجر العظيم لذا كانت مطاردته على قسوتها جزءاً من بحر الآلام الذي سيتبعه بسمة وأنها رحلة من مسيرة الحياة الفانية.
كان يرى حب الناس رصيده في الدنيا، وأجر إنفاق ماله في الطاعة رصيده في الآخرة ورضا والدته الحاجة هو نعمة الدنيا والآخرة.
كان رفيق يثق في الناس ولكنه لم يأمن خيانة القلة الساقطة التي باعت وطنها وشعبها ودينها بثمن بخس دراهم معدودة، فتتجسست على أبناء شعبها لصالح ممثل قذر لا يعرف أدنى الإنسانية- هذه القلة العميلة تحالفت مع الشيطان فشاركت في قتل المناضلين والشرفاء وأفسدت في الأرض فأسقطت ذوي الحاجة من عمل أو سفر أو مال أو علاج أو تعليم في شرك العمالة مستغلة حاجاتهم.
تنقل رفيق بسيارة صديق له من مكان إلى آخر للضرورة وما هي إلا لحظات حتى سمع زخات من الرصاص واشتباكات ومظاهرات وإذا بأبناء القرية يتصدون للجيش الذي حضر لمحاصرة المنطقة التي عرف فيها بينها الأهالي بوجود رفيق.
خرج المتظاهرون من أبناء القرية بصدورهم العارية وإرادتهم وعزيمتهم وحبهم وصدقهم واخلاصهم لحماية رفيق الذي لم يقصر يوماً في حمايتهم ومساعدتهم.
حمدت الحاجة محبوبة الله على سلامة ابنها ولم تصبر على عدم رؤية رفيق والاطمئنان عليه بعد محاولة اعتقاله فطلبت من أصدقاء رفيق أن يقابلها، فوافق لأنه اشتاق لها وأخبار أخيه الذي عاد من السفر وخطيبته.
كانت أعين الاحتلال تراقب ليل نهار بيت الحاجة التي قد تفكر في مقابلة ابنها وكانت تلك فرصتها، فأخذت الحاجة معها بعض المأكولات والملابس والغطاء فقابلته في مكان مهجور.
تفاجأت الحاجة من حال ابنها الذي ينام على الأرض ويلتحف السماء ويأكل القليل من الطعام فتغير وجهه ومال للاصفرار من التعب والسهر والجوع.
عانق رفيق أمه التي لم تتركه إلا صابراً راضياً محتسباً أمره إلى الله وأوصته بدوام الصلاة والقيام والدعاء لله عز وجل وقراءة المعوذات من الشرور.
وصلت إخبارية لمخابرات الاحتلال بعد متابعة أمه التي قد تكون ذهبت لمقابله وحين عودتها علم رفيق بإمكانية محاصرته فترك المكان.
نظر لمرآة السيارة التي كان يقودها بمفرده وإذا بسيارة مشبوهة تتعقبه فشك بها وأسرع فأسرعت نحوه وما هي إلا لحظات حتى أطلقوا النار عليه وحينما شعر رفيق بالخطر ترك السيارة وهرب منها فأصابوه إصابة بالغة.
أسرع أحد المارة نحوه لإنقاذه فوصلت السيارة واختطفوا رفيق، مر يوم لم يقابل فيها أصدقاءه فلم يتبادر لذهنهم اعتقاله وبعد يومين افتقدوه إلا انهم لم يعرفوا من أمره شيئاً فتوجهوا لأمه فأكدت أنها قابلته وعادت ولم يخبرها بشيء.
واصلت العائلة السؤال عنه دون جدوى فزاد قلقهم عليه، واصل الأصدقاء السؤال عنه ومر على افتقاده أسبوعان لم ينم محمد ليله حائراً يفكر بمصير أخيه وأعز مخلوق على قلبه فلم يدع مستشفى أو صديق إلا ذهب ليسأل عنه.
بلغت الحاجة محبوبة الصليب الأحمر ومنظمات حقوق الإنسان فدعتها إحدى المنظمات الإنسانية بعدما حضر الرجل الذي رأى رفيق وقت اعتقاله ولكنه لم يتعرف على اسمه فاجتمع الطرفان لسماع الشهادة ومواصفات رفيق الذي تركته أمه قبل لحظات من مطاردته قال الرجل أن الشاب الذي رأيته في العشرينات من العمر يرتدي بنطلوناً أسوداً ومعطفاً أسوداً ولفحة بيضاء يضعها على رقبته، قاطعته الحاجة محبوبة وصرخت:
- نعم هو رفيق ابني فماذا حصل معه بعد ذلك؟
- كانت تطارده سيارة من نوع بيجو بيضاء فأطلقت عليه النار، وعلى المفترق ترك سيارته فأصابوه في رجله، أسرعت نحوه لإنقاذه فسبقوني إليه وحملوه معهم.
- قالت الحاجة : هل هم من الجيش؟؟ وهل نزف دماً؟؟
- لا تقلقي يا حاجة محبوبة على رفيق التي تيقنت من اعتقاله ولكنها بقيت قلقة على صحته وإصابته.
سند محمد أمه وأعادها للبيت وأخذ يطمئنها على شقيق قلبها، أنا طبيب يا أم محمد والإصابة في الرجل غير خطيرة وهذا قدر الله وأنت مؤمنة وصابرة فتوكلي على الله وربنا يكن في عونه في اعتقاله ومحنته.
- ونعم بالله يا محمد- الله يرضى عليه ويشفيه ويحميه ( وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) (يس9)
( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ( بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شئ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم).
هدأت الحاجة محبوبة وتوضأت وصلت لله ودعت له، وذهب محمد للصليب الأحمر وبلغهم بإفادة الرجل الذي رأى أخاه وطلب منهم متابعة أمره وبعد يومين أكد الصليب لمحمد اعتقال رفيق دون أن يطمئنهم على صحته.
لم تنم منال ليلها وهي تفكر في حال خطيبها وحبيبها ولم تملك في هذه اللحظات سوى تلقي الأخبار من محمد الذي لم يكل ولم يمل في السؤال عنه فذرفت الدموع خوفاً عليه ودعت الله له بالصبر والسلامة.
حضر كل أهل القرية لبيت الحاجة يواسونها في مصابها الذي يعتبر مصاب كل القرية فبدت عليهم مشاعر الإخلاص والحزن مع من صدقهم ولم يتوانوا في عرض المساعدة لتوقيف محامي لرفيق ولكن الحاجة سبقتهم.
استغل المحققون جرح رفيق فاستخدموه في التحقيق، كانوا يضغطون على الجرح ويلمسونه بأداة حادة ليعترف ولكن رفيق كان صامداً متحدياً وصبوراً فلم يزد على اعتراف الآخرين عليه بتقديم مساعدات مالية لشراء السلاح.
- قال المحقق: أنت قائد تنظيم إرهابي يا رفيق ولك علاقاتك مع جهات خارج البلاد أليس كذلك؟
- أجاب رفيق : الإرهاب هو أن تستغل جرحي وأعصابي وتعذبني دون دليل ولم أكن يوماً على علاقة مع أحد....
قاطعه المحقق: أنت تكذب يا رفيق وان لم تعترف سوف نعتقل أمك وأخاك وخطيبتك وسنهدم الليلة بيتكن، هيا قل ما عندك؟؟
- لا تهددني بشيء (فالله خير حافظا وهو ارحم الرحمين) (يوسف64)
(فاقض ما أنت قاض ) (طه72) ، فليس عندي أي شئ.
لم تمر الساعات سهلة على رفيق ورغم أنه تجاهل تهديد المحقق في مسلخ التحقيق بسجن أهله وهدم بيته إلا أنه كان يتألم من حديثه أكثر من التعذيب، فأهون عليه أن يتقطع إرباً على أن لا يمس أمه وخطيبته مكروه، والاحتلال لا يعرف الرحمة أو الشفقة فكان يتوقع منهم كل سوء.
مر سبعون يوماً على رفيق والتهب الجرح من الإهمال الطبي والضغط النفسي، وشعر بالتعب الجسدي من قلة النوم والجلوس على كرسي صغير مقيد الأيدي من الخلف وصب الماء البارد والساخن على رأسه وجسده ونقله للحجز الانفرادي ومواصلة تهديده وضربه وهز رأسه فشعر بألم شديد في رقبته وباقى جسمه .
دخل المحقق عليه وبلغه بانتهاء التحقيق وطلب منه أن يجهز نفسه للانتقال للسجن ، وفي هذه اللحظات سمع صراخ وشتائم وادخلوا لزنزانته أربعة رجال.
- أهلاً وسهلاً من تكون؟؟
- رفيق نصر العسقلاني.
- نحن نحيي صمودك فأنت الآن ستنتقل إلى قسم استقبال كمحطة لدخول السجن وبلِّغ سلامنا للموجه العام هناك وقل لهم أن الشباب الذين نزلوا للزنازين بخير وأنك أتيت من طرفنا ولكي تعجل لانتقالك للسجن فصارحه بقضيتك لاستكمال المعطيات التي يعرفونها من المرجعية في الخارج ونحن ننصح بذلك لمساعدة الفدائيين المطلوبين في الخارج حتى لا يصابهم أذى من اعتقالك وإن شاء الله يكون حكمك خفيف وكفارة يا رفيق.
عانق رفيق الشباب الأربعة ولم يعلق على حديثهم حتى يرى ما ينتظره.
فتح شرطي الزنزانة لرفيق وقيد يديه ونقله لقسم عادي وأدخله لغرفة كبيرة يقطنها تسعة رجال، فاستقبلوه بالترحاب وطلبوا له ممرض السجن الذي غَيَّر له ضماد جرحه واهتم مَنْ في الغرفة به، فأحضروا له الملابس وبعض الحاجيات الضرورية اليومية كالصابون وفرشاة الأسنان والمعجون والمشط والمناشف وداوموا على تقديم الحليب والعسل له.
كانوا يجلسون معاً ويتعلمون القرآن ويخرجون لصلاة الجمعة ويطالعون الكتب الإسلامية والوطنية وتجمعهم القوانين الاعتقالية فيهتمون بالبرامج الثقافية ولهم أوقات نوم ونهوض ويخرجون للنزهة ويعقدون الجلسات والتحاليل السياسية.
شعر رفيق بالراحة بينهم وخجل من كثرة اهتمامهم به، وفي ذات ليلة طلبه كبيرهم أبو عنان.
- أهلاً وسهلاً بك يا رفيق، أنا الموجه العام وأحيِّي صمودك وتحديك فنحن بحاجة لأمثالك لأنك بطل.
يا رفيق وصلنا رسالة من التنظيم وعليها توقيع رسمي يطالبوننا فيها بتاريخك النضالي واثبات نقاءك الأمني وتقاصيل قضيتك وعلاقاتك والذين تم السؤال عنهم أو من تشعر بالخطر عليهم من أصدقائك حتى يتم تحذيرهم وأن تشرح كل نشاطك لرفع ذلك للتنظيم قبل أن تنتقل للسجن الدائم هناك.
استغرب رفيق من حديث أبي عنان وقال له :
-أي صمود الذي تتحدث عنه ومن قال لك أني صمدت؟؟ على كل الشباب الأربعة الذين نزلوا للزنازين يبعثون لكم السلام.
- قال أبو عنان: سيماهم في وجوههم يا رفيق ولكي تتأكد من حديثي فها هي الرسالة الرسمية وختم التنظيم عليها يطلبون من الحديث معك.
تذكر رفيق وصايا أمه التي تعلمتها من زوجها إبراهيم قبل استشهاده على أن لا يبوح بسره لمخلوق وقال له :
- يا أبا عنان بلِّغ التنظيم شفهي أن كل قضيتي ما اعترف علىَّ الشباب به عندهم في سجن وإذا أرادوا المزيد فهم عندهم.
- قال أبو عنان: ولكنك بهذه الطريقة تضر بالتنظيم وبالشباب في الخارج وهذا يضع علامات استفهام عليك، فكيف يمكن أن نتيقن من صدق انتماءك دون التعرف على تاريخك- يا رفيق سأتركك الآن تفكر في الأمر حتى غد وتصبح على خير.
فكر رفيق طوال ليله بحديث أبي عنان وتساءل: من هذا أبو عنان، وكيف أعطيه سري وأّمن له، وهل فعلا هذا اسمه؟ ثم لماذا يسألني عن أمور حساسة ودقيقة وما القصد من ذلك وأين الشباب الذين اعتقلوا قبلي ، لماذا ليسوا هنا، وما هذا السجن الذي يتكون من غرفتين؟؟
لم يجد رفيق أي إجابة لأسالته ولكنه لم يشأ الظن السئ في أناس احترموه وقدروه وساعدوه وانتظر لليوم الثاني.
وفي الصباح تحامل على نفسه وخرج للنزهة ليرى الشمس ويستنشق بعض الهواء وتحريك رجله المصابة والضعيفة قياساً بالأخرى وفي نهاية اليوم جلس بجانب أبي عنان وسأله:
- ما هو موقع هذا القسم من السجن؟
- فأجاب: هذا فقط قسم استقبال للمعتقلين الجدد الذين يخرجون من الزنازين، لذا آمل أن تكون فكرت في حديث الأمس حتى تنتقل للأقسام فوق.
لم يقتنع رفيق بحديث أبي عنان الذي أضاف علامات استفهام جديدة وقال له:
- نعم فكرت ولكن في حقيقة الأمر ليس عندي ما أقوله سوى ما تعرف.
استشاط أبو عنان غضباً ونادى على من في الغرفة وقال لهم:
- رفيق عميل يا شباب ويجب أن نحقق معه، فهو يرفض إثبات نقاءه الأمني وعلينا أن نعرف ما وراءه.
استجاب من في الغرفة لنداء أبي عنان وأسرعوا نحو رفيق الذي تأكد بأن حضوره لهذا المكان ما هو إلا جزء من التحقيق وأن الغرفة ومن فيها يعملون مع المخابرات عصافير وقبل أن يصلوه تناول كرسي وشج به رأس أبي عنان فنزف دمه وتعالت الصيحات وشعر السجان بالخطر على أبي عنان فأعلن زامرات الإنذار التي تعلو في سجن عند كل خطر فحضرت للغرفة فرقة خاصة مجهزة بالخوذ والهراوات ومدافع الغاز فأخرجت أبا عنان للعيادة ورفيق من الغرفة إلى التحقيق ثانية.
عاد رفيق للشبح والتعذيب والضرب وهز الرأس من جديد وقال له الضابط:
- إذن تغلبت على تلك الحثالة من أبناء شعبك. فاجاب رفيق:
- إنهم كما وصفتهم ولكنهم ليسوا من أبناء شعبي ( فمن يتولهم منكم فانه منهم ) المائدة 51
- قال المحقق: إنهم ليسوا منا فمن خان شعبه وليس فيه خيراً لهم لن يكون فيه خيراً لغيرهم وكما خانوكم فسيخوننا يوماً ما، فنحن فقط نعصرهم كالليمونة ثم نرميهم لأنهم لا يساوون شئ.
مرت الأيام صعبة على رفيق لأنه قلق على أمه وخطيبته وأخيه وحينما أدرك ضابط المخابرات أن لا فائدة منه أخرجوه لسجن عسقلان المركزي وهناك تعرف على عشرات الأبطال من أبناء شعبه وقابل إخوانه الذين اعتقلوا قبله فتحدث لهم عن تجربة التحقيق والعصافير وأخبار الناس خارج السجن.
دخل رفيق الغرفة فشعر بالأمان واستقبلوه الشباب بالترحاب والحب والإعجاب بصموده.
كانت الغرفة ضيقة ولها رائحة كريهة ففيها عشرة أسرة كل منها بطابقين وحمام مع مرحاض وشباك صغير مغطى بالحديد يمنع الهواء ومحاط بالأسلاك الشائكة، والغرفة كل شئ في حياة العشرين أسير الذين يعيشون فيها، فهي المطبخ والحمام والمسجد والمدرسة والجامعة وغرفة الرياضة والنوم والضيافة ويعيشون جماعة في كل صغيرة وكبيرة فوجد القديم والجديد والكبير والصغير والمثقف والأمي وابن المدينة والقروي والفلسطيني والعربي من غزة والضفة وفلسطين المحتلة، المتدين والعلماني وكل أسير منهم له قصة وبطولة ومأساة ومواقف ألم وهَمْ وحزن وأمل وطموح وبسمة.
في الغرفة تلفاز واحد يتقاسمه العشرون فمنهم من يحب الرياضة والثاني الأخبار وثالث البرامج السياسية ورابع الأفلام والمسلسلات وخامس البرامج الوثائقية واخر الصور المتحركة أو البرامج الترفيهية ويحقق كل من الحد الأدنى من رغبته احتراماً لأخيه.
إذا مرض أحدهم يجمعون له فاكهتهم على ندرتها، وإذا علم أحدهم بموت عزيز أقاموا له العزاء واجتمعوا حوله يواسونه بمصابه ويخففون عنه.
وإذا تلقى أحدهم خبراً سعيداً باركوا له فيه وأشعروه بأنه بين أهله وذويه فوزعوا الحلوى والعصير.
يعيشون مع شعبهم فرحته وألمه وانتفاضته ويترقبون الأحداث وكأنهم خارج السجن، هم يداً واحدة وقلباً واحداً على السجان الذي يقتنص كل فرصة لينقض عليهم فصنعوا بوحدتهم جدار العز وملاحم البطولة، فلم يجد بينهم سبيل ضعف ولم يؤتوا من قبل أحدهم.
هم جسداً واحداً كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضاً، متآلفون ومتحابون ومتفانون، وضعوا لأنفسهم قواعد للحياة رغم قسوتها فأوجدوا بينهم التفاهمات الداخلية في الغرف والقوانين التنظيمية كل وفق رؤيته ومبادئه، ووضعوا اللوائح الاعتقالية بين الفصائل الإسلامية والوطنية ليضبطوا أوضاع قلاعهم ويقاوموا إدارة السجن التي لا تنفك عن سحب إنجازاتهم ومحاولة السيطرة عليهم، فسيطروا بجوعهم وأيام نضالهم وخطواتهم ملاحم تشرف شعبهم، وأوجدوا واقعاً عزيزاً كريماً مع السجان الذي لم يقوى عليهم.
فكل حياتهم قائمة على الحوار والنقاش والمشورة وجميعها منظمة ومدروسة ولا يسمحون للعابثين المس بها أو تخريبها ولا يفرقون في المحاسبة بين عنصر أو قائد جميعهم كأسنان المشط.
تعرف رفيق على زملاءه التسعة عشر في الغرفة وتطورت علاقته بهم جميعا، فأحبهم وأحبوه وكان يحمد الله وهو يرى ماسي وأحزان وهموم من حوله.
فتعرف على أبي ياسر الذي كان يعاني من العديد من الأمراض ويشعر بالاختناق من الأزمة الصدرية المزمنة ولم يجد الاهتمام الصحي لتتحسن حالته،،
ولاحظ في النزهة أخ كفيف عزيز النفس يقوم بكل احتياجاته بنفسه ولا يثقل على الآخرين ويكون مبتسما في معظم أوقاته،
تنقل رفيق من سرير ( برش) إلى آخر وسمع من أصحابها بطولاتهم وآلامهم وأّمالهم وتأثر بأبي هشام الذي أمضى في سجنه ما يزيد عن سني حياته في الحرية.
- قال أبو هشام: هذه السنة السادسة والعشرون من اعتقالي يا بني.
- تألم رفيق وسانده: جعلها في ميزان حسناتك يا عم أبي هشام.
- أدعو الله أن تكون كذلك ولكني أتساءل لماذا أبناء شعبنا والفصائل والمؤسسات تهضم حق هذه الثلة الصابرة منهم ، تصور يا بني أني أتفاجأ من كل مناضل جديد كونه لا يعرف عنا شئ، فهل يعدوننا أمواتاً وإن كان كذلك فلنوصي أهلنا بإقامة بيوت العزاء علينا.
- لا قدر الله يا أبا هشام فالعديدون ممن أمضوا فترات طويلة فرج الله عنهم ويعيشون بين الناس في قمة الاحترام والتقدير أو السجن لا يبني على أحد، كما يقولون يا عم.
- أخشى ما أخشاه يا رفيق أن يحدث هذا مع المجاهدين الجدد والمحكومين أحكاماً عالية وتتكرر مأساتنا معهم ويمضون زهرة شبابهم وأجمل سني أعمارهم في هذه العتمة وبين الجدران.
أليس من الغريب يا رفيق أن يكون شخص منا بطل عند تنظيمه خارج السجن يطلب فيُطاع وإذا ما دخل السجن تنتهي صلاحيته لأن الاستفادة من إمكانياته وقدراته وتضحياته قد توقفت.
وإذا ما خرج ويجد أبناء جيله يتمتعون بالحياة وأبناءهم شباب فيخرج دون مساندة ليبدأ رحلة الحياة على مشاقها من جديد، أليس من الظلم عدم مساندتهم ومساعدتهم والوقوف بجانبهم لتعويضهم؟؟
- معك حق يا أبا هشام، وهل عندك أبناء؟؟
- نعم عندي هشام تركته ابن عامين فقط وأنا الآن جد لثلاثة أطفال.
ترك رفيق أبو هشام وهو يحمل في قلبه هما عليه ودعا الله له بالفرج القريب.
جلس في اليوم الثاني مع زميل آخر يسمى رفعت وعلى جانبه صورة لحاجة كبيرة فأساله:
- من هذه الحاجة يا رفعت؟؟
- إنها أمي يا رفيق توفت قبل سنة ونصف.
- الله يرحمها ويجمعك بها في الجنة، فمتى زارتك المرة الأخيرة؟؟
- قبل وفاتها بيوم كانت مريضة ومثقلة بالألم وفي موعد الزيارة أجبرت إخواني على تسجيلها للزيارة فعارضوا وحينما قالت لهم أن لم ازور رفعت فلن اقعد عند أحد منكم في بيت فنزلوا عند إصرارها ورغبتها.
كانت أمي سندي الوحيد في الحياة، فبنت لي بيتاً من مدخراتي وما استطاعت توفيره وجمعت لي مهر عروس لتفرح بي فور الإفراج عني وقبل حضورها للزيارة جمعت إخواني الكبار وأخذت عليهم عهداً أن لا يتخلوا عني إذا ما حصل لها شئ فعاهدوها.
وحينما حضرت للزيارة بمساعدة الأهالي نظرت لها وكأني أراها لأول مرة ، كانت تتحدث بمشقة ووجهها قاتم ويديها ترتجف فعاتبتها على حضورها وهي مرهقة فقالت:
يا رفعت يا حبيبي، أشعر بالراحة حينما أراك واليوم أراك وكأني أودعك فيا قلبي كنت أتمنى حضور يوم فرجك وفرحك ولكن الأعمار يا حبيبي بيد الله، فبيتك ومهر زوجتك أمانة عند إخوانك، أخذتُ عليهم عهد مساندتك وهم أوفياء لحالك فسامحني يا رفعت إن مت، فالموت يا بني حق وليس بيدي، واعذرني لأني سأقطعك من الزيارة فهذا يا حبيبي قدرنا وحكم الله على وعليك، ولو كان الأمر بيدي لبقيت على قيد الحياة ليس حباً فيها بل لأجلك وكل ما أخشاه يا رفعت أن تشعر بالوحدة من بعدي وخاصة بين أصحابك الذين يزورون ويحضرون لهم أمهاتهم وزوجاتهم طلباتهم ويساندوهم، فخوفي أن يقصر أحد معك بعد موتي في تأمين طلباتك ، ولكن الله لن ينساك فكن دوماً معه حتى يبقى معك، ولا تيأس من رحمة الله فالسجن يا رفعت لا يدوم على أحد وخذ بالك من دينك وإيمانك واحفظ ما استطعت من القرآن الكريم وصلي لله إذا حزنت أو شعرت بضيق ولا تنساني يا نور عيني من الدعاء....
حينها رن جرس انتهاء الزيارة فودعْتَها وقبَّلتُ يديها وطلبت رضاها ودعائها وأوصيتها بصحتها وحينما وصلت للبيت ..... انقطع رفعت عن الحديث وحشرج صوته وذرفت دموعه وقال – لقد توفت يا رفيق في نفس الليلة.
انتهى الجزء الثانى من رواية
الشتات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صمود رغم الحدود والقيود
عضو ماسي
عضو ماسي
صمود رغم الحدود والقيود


عدد المساهمات : 297
نقاط : 752
تاريخ التسجيل : 21/02/2011

 رواية الشتات / للأسير المحرر رأفت  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية الشتات / للأسير المحرر رأفت     رواية الشتات / للأسير المحرر رأفت  Icon_minitimeالإثنين يناير 23, 2012 12:20 pm

الجزء الثالث والأخير من رواية
الشتات

تأليف
رأفت حمدونة
سجن بئر السبع

تأثر رفيق بحديث رفعت الذي بدى عليه الحزن كثير الألم وأخذ يواسيه ووضع يديه على كتفيه وقال : قدر الله يا رفعت الله يرحمها ويحسن مثواها.
وفي اليوم الثالث جلس رفيق مع زميله أبي علاء على الشباك المغطى بالحديد لعلهم يلمحون السماء ليلاً ، وإذا برفيق يشاهد القمر من بين الأسلاك وسأل أبا علاء:
- هل رأيت أجمل من هذا القمر؟؟
وبصوت يملأه الحنين قال أبو علاء: يارا يا صديقي أجمل مخلوق على وجه الأرض أجمل من ضوء البدر ليلة كماله، وزرقة السماء ونسمة الربيع وصوت الجدول المغطى بالغصن الأخضر وأحلى من خيوط الشمس الذهبية وأجمل من بياض الثلج، يارا قطرة الندى على الزهرة المتفتحة وحبات مطر الشتاء ، يارا يا رفيق مرجانة بل حبة لولو في محار مزين فهي أصفى من ماء العين .
- لهذه الدرجة يا أبا علاء؟؟
- وأكثر من ذلك ، فأهون علي أن أحمل كل المرض على أن لا يمسها سوء، فهي البسمة البريئة الجميلة وسط العذابات، والكلمة الرقيقة بين الآهات وطلعة بدر في ظلام حالك وزهرة رقيقة بين الأشواك.
يارا يا رفيق نسمة حب ووردة معطرة وطير مغرد وسحر أخاذ كم يا رفيق أتمنى ضمها بين ذراعي وحضنها على أضلعي وأن أقبلها بقدر شوقي يارا حلمي الذي انتظره وقلمي الذي أكتب به ، وعاطفتي التي تخرجني بجمالها من هذه العتمة والأسلاك.
يارا كل قلبي ومهجته وكل ما أتمناه يا صديقي أن أعوضها حرمانها وأشعرها بالحنان الذي افتقدته.
يا هل ترى يا رفيق ماذا تتصورني الآن؟؟ فلقد ولدت بعد سجني ولم تعرفني إلا على شبك الزيارة والصور، وهي الآن في البستان بنت الرابعة من العمر كلما نظرت لصورتها تمن علي بشعور الأبوة الذي أعيشه بفضل الله ثم بفضل يارا أصبحت أب لها يا رفيق الآن علمت خشية أبي علي وحب أمي لي .
- الله يجمعك بها يا أبا علاء وتعوضها طفولتها فأنا ذكرتك بمن تحب وفتحت عليك بابا قد تتألم كلما عشت الفراق عنه.
- بالعكس يا رفيق فأجمل اللحظات هي التي أتحدث فيها عن طفلتي وملاكي وأجمل الصور في نظري ملامحها.
مرت الأيام وفي أحدها جلس على سرير زميله أشرف ويقال له أبي رائد يسأله:
- كم لك يا أشرف في السجن؟؟ فأجاب:
- ثماني سنين.
- قال رفيق: وهل لك أولاد؟؟
- لي ابن وحيد اسمه رائد وكان عمره أيام يوم اعتقلت فعرفني وعرفته على شبك الزيارة في سجن حتى قال بابا.
ومع مر السنين قربته إلى فأخرجت له الحلوى في كل زيارة وفي إحدى الزيارات سألته:
- هل تأتي لي أم للحلوى يا رائد. فأجاب : للحلوى.
تأثرتْ زوجتي بجوابه وتألمَت لأجلي وبدأَت معه مسيرة جديدة من التربية ليتقرب إلى ، وبقيت احتفظ له بالحلوى فحرمت نفسي من كل شئ في السجن واذكر أن أحد الأخوة وزع حلوى لزواج أخيه وانقطعت الزيارة بسبب أحداث وانتقلت من سجن إلى آخر فآثرته بها وحينما زرت أخذتها وإذا برائحتها كريهة فلم يأكلها رائد ولم آكلها أنا، وعلى شبك الزيارة سألته بعد أشهر:
- هل تأتي لي أم للحلوى يا رائد؟
- ففاجئني بقوله: آتي لأجلك يا بابا فأنا أريدك أن تخرج من السجن لتحملني كما يحمل عمي أبناءه وأحضنك وتشتري لي دراجة كما صديقي محمود.
- تمنيت حينها لو قبلته وعانقته أو وضعته بين ذراعي ولمست شعره بيدي وحينما كبر تعلقت به وتعلق بي وقبل أشهر دخل المدرسة وكان يذهب مع أبناء عمه إليها وحينما قطع الشارع السريع بين قريتنا والمدرسة ضَرَبَتْهُ سيارة مسرعة وتوفي قبل أن يصل للمستشفى.
ذرفت دموع أشرف على ابنه الأحب وذرفت دموع رفيق على أشرف الذي لم يتمالك نفسه.
وبعد أسبوع جاء الشرطي ليبلغ النقل والسفريات للمستشفى والمحاكم فوقف الأسرى على أبواب الغرف فسمع رفيق اسمه سفرية للمحكمة، كان يترقب هذا اليوم بفارغ الصبر حتى يطمئن على أمه وبيتهم وخطيبته وأخيه فعد الساعات والدقائق وفي ليلته تساءل:
- هل فعلاً اعتقلوا أمي وخطيبتي وآخي وهدموا البيت أم تهديد؟؟ الله يستر، يا رب لا أراهم في المحكمة معانين.
كان الشعور متبادل مع الحاجة محبوبة التي علمت بإصابة رفيق ولم تراه منذ ثلاثة شهور كانت الشرطة تمنع اقتراب أهالي الأسرى من أبناءهم في القفصة لئلا يسلموا عليهم أو يتحدثوا معهم وإذا ما تحدث أسير مع أهله منعوه وإذا تجاهلهم انهالوا عليه بالضرب. كان رفيق يتمنى رؤية أهله ليطمئن عليهم كما الحاجة.
ذهب رفيق للمحكمة بلباس بني مختوم بمصلحة السجون مقيد اليدين والرجلين وعلى جانبيه شرطة مسلحة وحوله مجموعة أخرى بالهراوات. وانتظرت منال والحاجة دخول رفيق بفارغ الصبر وحالت بينهن وبينه حينما لمحوه عن بعد مجندة مسلحة.
جلس رفيق على مقعد يسترق النظر للجالسين أمامه من الأهالي فرأى أمه وخطيبته ولم يرَ أخاه.
اقترب المحامي من رفيق وسلم عليه وسأله عن صحته ليطمئن الحاجة ووصل له سلام أخيه محمد الذي منعته المحكمة من الدخول فبقي خارجها.
تبادل رفيق الإشارات مع أمه وخطيبته وذرفاً دموع الشوق ولكنهم اطمئنوا على بعضهم وأردات أن تحدثه الحاجة التي لم تصبر فلم يسمع فتدخلت المجندة لمنعها فلم تكترث الحاجة محبوبة بتدخلها ورددت السؤال عن رجله فمنعتها من الحديث وصرخت في وجهها واقتربت الحاجة من رفيق قليلاً ونادت عليه فدفعتها المجندة بقوة وألقتها على الأرض، تدخلت منال ولطمت المجندة على وجهها ودفعتها فانتصب رفيق ولم يكترث للهراوات والجنود فطمئنها على نفسه وأصابته بصوت عالي وسال منال عن البيت فأكدت له أنه لم يصبه أذى وأوصته بنفسه فأوصاها بأمه ونفسها سحبت الشرطة رفيق من القاعة التي ضجت بالصراخ وانهالوا عليه بالضرب، وحينما وصل للسجن نزل لمحكمة داخلية فوضعوه في زنزانة انفرادية لسبعة أيام ومنعوه عن الزيارة لشهرين متتابعين مستقبلاً.
لم يشعر رفيق بعقابهم الذي لا يساوي شئ أمام الاطمئنان على أهله والحديث مع أمه ومعرفة أخبارهم واطمأنت الحاجة ومنال على رفيق حينما رأوه بصحة جيدة ومعنويات عالية.
عاد رفيق بعد أسبوع لغرفته يتذكر كل إشارة من أمه وخطيبته وتذكر القرية وترابها الأحمر وعبق زهرها البري وأشجارها الخضراء الضخمة التي تجذرت منذ عشرات السنين، وتذكر البيوت العتيقة والحجر القدسي الصلب الذي لم تؤثر فيه حرارة الصيف وبرد الشتاء وكلما قدم تألق وتجمل وازداد حلاوة.
اشتاق رفيق لمنظر الفلاح الذي روى أرضه بعرقه والى حنان الأم التي ذرفت الدمع شوقاً لمحبيها، إلى فتاة الحي التي صانت نفسها ورفعت رأس والديها بكرامتها وأخلاقها، إلى الطفل الذي يطوف بشجرات البيت كما يطوف الحاج حول البقعة المقدسة، ويداعب فروعها بأصابعه ويلتقط أوراقها كما يلتقط طرف أمه وهو بصحبتها.
اشتاق للهب الموقد في ليلة ممطرة اجتمع حولها المحبون، والى ثمرة التين وشجرة الزيتون التي تستحي طوال العام ولم تتجرد من أوراقها فتعلمن منها نساء القرية العفة والحياء.
اشتاق لدالية العنب وزهرة الموز ومياه البئر البارد في يوليو وطيبة قلب الناس وبساطتهم، إلى العجائز اللواتي طالما دعون إليه كلما تفقدهن وإلى الأطفال الذين أحبوه وتمنوا أن يكونوا مثله عندما يكبرون.
تألم رفيق لأنه مسجون في عسقلان المحتلة، بلده ووطن أجداده، ولكنه كان سعيداً لأنه يلتحف سماءها وندى فجرها يلفح وجهه ويتنسم هواءها العليل فيختلط بدمه وقلبه وصدره وكل خلاياه.
المجدل في نظره قطعة من الجنة على الأرض وهبها الله لأهلها، شعر بالفخر وهو يتذكر ما طالعه عنها وهو في السجن وكلما تعرف على تاريخها، فهي أعظم موانئ البحر المتوسط من قبل آلاف السنين ما قبل الميلاد والموقع الاستراتيجي للتجار والمسافرين بين تركيا وسوريا ومصر فتزينت بالهدايا واهتمامات الدول العظمى والحضارات فأقام فيها الكنعانيون السراديب والأروقة والأبراج وأقاموا حولها حصن حصين يحميها من الغزاة وكانت مصدر إزعاج للفراعنة وازدهرت في عهد اليونانيين.
ولد فيها الملوك كهيرود الذي أقام فيها القصور الفارهة والمسارح والحمامات والأعمدة والحدائق والقاعات الواسعة. عسقلان أرض الرباط والبطولات والجهاد فعاشت في كنف الإسلام ونعمت باستقراره وحمايته ورعايته خمسة قرون نهل أهلها في العلوم والثقافة والحضارة والعزة والاستعلاء، وطمع فيها الغزاة كالصليبين فجمعوا عتادهم وجيوشهم ولم تسقط في يدهم إلا بعد حصار دام سبعة شهور، لم يسلم المسلمون بسقوطها فأعادها القائد الإسلامي العظيم صلاح الدين فأعاد الصليبيون قوتهم ولم يكن أمامه بد إلا تدميرها وقلبه يعتصر ألماً عليها ويقول " لأن أدمر حجراً من عسقلان أصعب على من أن أفقد كل أبنائي وحينما سقطت ثانية أعاد بناءها الغازي ريتشارد ولكنها كانت أغلى على المسلمين فتم إعادتها بعد دماء عزيزة تدفقت على أرضها وتشهد على قيمتها ومكانتها وعشق كل غيور مسلم لكل حبة تراب من أرضها ارتوت بدماء الطاهرين من أجدادنا.
ردد رفيق في نفسه المجدُ لنا، والمجدل لنا، وحتما ستعود بوعد الله وعهده وتوفيقه وهذا السجن سندمره ونحوله لحدائق وسنابل وأشجار برتقال وزهور جميلة تذكر كل من زارها بزهرات أبناء شعبنا الذين قضوا أعمارهم فيها لأجل الله والقدس والمجدل وكل فلسطين.
اشتاق رفيق في سجنه للحاجة محبوبة وتذكر وصاياها له ولأخيه محمد الذي شاركه شظف العيش وكسرة الخبز اليابسة وحبة الزيتون، والى خطيبته منال ومستقبلها وتساءل:
- ما ذنب منال التي لم تختار هذا الطريق، أليس من الأنانية أن تنتظرني كل السنين المقبلة، لماذا لم ترى نفسها ومستقبلها وتعيش حياتها كباقي بنات القرية وتتمتع بشبابها.
تصورها وهي تعاتبه حينما خيرها قبل اعتقاله فرفضت وعاهدته على دوام عهد الله بينهما وأنها لن تكون لغيره.
حلم رفيق في عودته لأمه وخطيبته وقريته وخبز أمه ونسمة القدس وجمالها وسحرها وصمودها على مر الزمن وتذكر الحرم والصخرة والصلاة والآذان وما هي إلا لحظات حتى ارتفع آذان الفجر فقام وتوضأ وأيقظ زملاءه في الغرفة فصلوا جماعة ثم نام.
اهتم رفيق بوقته في السجن وعوض ما فاته من تعليم وثقافة فدرس في كتب الثانوية العامة وحصل عليها، ثم كان من المبادرين للمطالبة بالتعليم الجامعي الذي تحقق بفضل الله ثم بفضل المعركة التي خاضوها الأسرى بجوعهم وصبرهم في الإضراب المفتوح عن الطعام والذي دام سبعة عشر يوما فتحسنت أيضا معيشتهم وظروف زيارة أهليهم واللقاء مع أطفالهم، كانت موافقة إدارة السجن على الجامعة العبرية لتعجيز الأسرى للانتساب إليها لصعوبة اللغة فتفاجأت من إرادة المعتقلين الذين أتقنوا اللغة العبرية بجهودهم الذاتية ومساعدة بعضهم فانتسب للجامعة عشرات الأسرى وكان رفيق على رأسهم وتفوق فيها.
شعر رفيق بنشوة النصر وهو يتحداهم فملأ فراغ السجن بالدراسة، وتعرف على سمهم الذين ينفثوه لأبنائهم حقداً على العرب وتزويراً للتاريخ وتربية على العداء والكراهية فلم يأخذ رفيق من ثقافتهم بقدر ما يأخذ من حجتهم على أنفسهم فتعرف على مجتمعهم المتفكك وتذكر كلام الله عز وجل " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى " الحشر 14
كانت منال تشجعه عبر الزيارات فتاتيه ولم تقطعه زيارة واحدة، فكان يقوى عزيمتها ويحلما معاً بلحظة الفرج والفرح والأمل بالحياة والسعادة.
كان محمد يتابع أخاه عبر منال فيبعث له بكل احتياجاته ولم ينتظر منه الطلب لها ويشعر دوماً بفضل رفيق عليه.
وكانت الحاجة محبوبة ممنوعة من الزيارة بحجة أنها ليس أمه فبقيت علاقتها معه عبر منال والمراسلات والصور واشارة خاطفة في قاعة المحكمة الظالمة التي تضع الجلاد قاضياً ببزة عسكرية وتستند لقوانين طوارئ يقف فيها المحامي صورياً وبقيت الحاجة تساند الأسرى في كل اعتصام صليب وكل مظاهرة تضامن تطالب بحريتهم.
وبعد ما يزيد عن سنتين تم حكم رفيق بست سنوات كانت كافية لإتمام تعليمه وحصوله على بكالوريوس.
كان اليوم يمر على الحاجة محبوبة بالسنة وهي بعيدة عن ابنها ومحرومة من زيارته، ولكنها كانت تفرح بأخباره وعزيمته واهتمامه بعلمه ووقته، وتقبل كل رسالة كانت تصلها منه.
عمل محمد في مستشفى حكومي بعد عودته من الأردن وتحسنت حالته وبقي متواصلاً مع أخيه وأمن حاجة منال خطيبة رفيق.
تغيرت ملامح رفيق بعد سنوات من اعتقاله فضعف بصره لضيق أفق الرؤية بين الجدران المعتمة ونضج عقله واصبح يضع كل الأمور في نصابها.
كان دوماً يردد أن العدو سجننا عقاباً لنا وهو واهم ، فعلينا أن نتحداه ونجعل من هذه المحنة منحة بالوعي والثقافة والعلم والقرأّن والتقرب إلى الله والتفقه في الدين.
هم يرهبون علمنا كما سلاحنا الذين تركناه منذ اعتقالنا وهم ليسوا أسياداً للكون كما يعتقدون، بل نحن خير أمة أخرجت للناس وديننا دين عقل وعلم ووعي وأخلاق ومساواة وإنسانية.
اختلف الأسرى على اتفاق أوسلوا داخل السجن وكان مادة للحوار والنقاش حوله، فمنهم من أيده ومنهم من عارضه ، قال حميد أحتج زملاء رفيق في الغرفة:
- لن ينجح اتفاق مع عدو حاقد كل يوم يميل شعبه للتطرف ويختفي فيه معسكر السلام، إنهم فقط يراهنون على موت الانتفاضة المباركة ويوهمون العالم بجنونهم للتعايش، يريدون دخول العالم العربي والإسلامي بحجة إنهاء الصراع مع أصحابه.
قاطعه عماد : لن تنجح خطوة لا تخطي بإجماعاً وطنياً وإسلامياً، فما أخشاه أن يكون هذا الاتفاق نقطة توتر داخلي وانقساما بين الشعب الفلسطيني.
فقال زياد : من ثغرات الاتفاق أنه مرحلي، ولا يحدد أزمنة واضحة وتفاصيل ولم يؤكد على قضايا مهمة كالقدس واللاجئين والأسرى ذوي الأحكام العالية ممن عليهم إصابات وقتل وقد يتجاوز أسرى المعارضة، ومن يضمن الاحتلال والتزام حكوماته المتعاقبة من اليسار إلى اليمين وصدق الله العظيم الذي قال : (أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم) البقرة 100
قال أبو ياسر : ولكن لا تنسوا يا إخوان إن هذا الاتفاق شيبت حق الشعب الفلسطيني في أرضه وسيعيد الثورة من الشتات إلى الوطن وسيكون بوابة للسيادة والدولة والاستقلال وسيعود عشرات الآلاف من اللاجئين وسيتم الإفراج بموجبه عن آلاف المعتقلين وسنبني مدن فلسطين ونقيم المؤسسات والموانئ والمطار والعمران.
ختم الحوار رفيق بقوله : ما أراه أن الاتفاق سيحقق القليل من طموحات شعبنا فلا شك أن له منافع ولكنه ملئ بالمخاطر والثغرات والتخوفات فهذا العدو جادل الله تعالى وكفر بالأنبياء ولا يعرف الاستقامة ولا يحلم بالسلام فأوسلو في نظري كالخمر أو الميسر (فيه إثم كبير ومنافع للناس ، وإثمه أكبر من نفعه ).
سنحت الفرصة بموجب الاتفاق لعودة انتصار التي تمنت العيش في بلدها ووطنها بعد شتات طويل ، وزاد شوق العودة كلما تذكرت قصة والدها الذي ترك متاع الحياة شعوراً بالواجب.
أصبحت انتصار طبيبة ماهرة ومتفوقة وذات عقل وحكمة وانتماء للوطن وثقافة عالية ، فلم ترى في نفسها أقل من الرجال في عطاءهم وخدمتهم لوطنهم بل لم تفرق بين طموحها واختيار أبيها للواجب الذي يحتم عليها خدمة شعبها بعلمها.
كانت تقول لأمها : فلسطين وجرحاها تحتاجني يا أم انتصار ، وإن تخليت عنهم بعد ما أصابهم في الانتفاضة لم يجعلني حاضرة الذهن في الموقف وبهذا أفقد قيمتي واحترامي لذاتي واحترام الآخرين لي.
فما قيمة العلم والخبرة إن جمدتها في حين أنني قد أكون وسيلة لشفاء المئات من أبناء شعبي ومساعدتهم والوقوف بجانبهم فان كان للرجال دور فأنا أيضاً لي دور وإن كان رجل يقاتل بسلاحه، فأنا سلاحي مهنتي وعلمي ورسالتي مساندة شعبي .
عادت انتصار لأرض الوطن مع العائدين ولخبرتها وتفوقها تبنتها مؤسسة وعينتها مديرة لها.
لم يفرج عن رفيق في اتفاق السلام وقبل يوم إفراجه بأيام تحرر من أسره ليلاً وكان تحرره مفاجئاً فلم يستقبله أحد.
طرق رفيق باب البيت قرب منتصف الليل فأفاقت الحاجة من نومها وقالت:
- اللهم اجعله خير، من سيأتينا هذه الساعة؟؟
توجه محمد إلى باب البيت وإذا برفيق أمامه، عانق الأخوان بعضهما بحرارة وعاد الدم إلى العروق والبهجة إلى البيت وعادت بعودة رفيق السعادة إلى القرية والحاجة محبوبة ومنال.
- من على الباب يا محمد ؟؟
لم يرد محمد على أمه خوفاً عليها من المفاجأة، فوضعت الحاجة غطاءاً على رأسها وخرجت لترى من الطارق في منتصف الليل ليطمئن قلبها فرأت رفيق أمامها، فأغمي عليها من شدة الفرح.
أسرع الأخوان نحو أمهما فطمئن الطبيب محمد أخاه رفيق الذي أخذ يقبل جبين أمه ورأسها ويديها وحينما فاقت وتكلحت أعينها بطلعة رفيق الذي عانقها وحضنها فبكت وبكى رفيق من شدة السعادة ونعمة الله عليه.
عملت القرية بالإفراج عن رفيق فتجمع المحبون حول البيت وسلم عليه المهنئون فرقصوا وأطلقوا النار استقبالاً لابنهم وحبيبهم ووصل الخبر إلى منال والشيخ حسن فلم يتمالكوا أنفسهم فذهبوا لبيت الحاجة محبوبة.
التقا المحبان والمخلصان لبعضهما والمتعاهدان بعد فراق طويل وجمع الله شمل العائلة من جديد وعادت الشراكة بين رفيق وأبى يوسف الذي انتظره على أحر من الجمر وكان بحاجة له أكثر من السابق لكبر سنه وثقل المرض عليه.
وواصل رفيق أعمال الخير والكرم على كل محتاج في القرية كما كان.
كانت الإصابة تؤلم رفيق رغم مرور السنين، فشعر بحاجته للعلاج الطبيعي فداوم على جلسات في مؤسسة الجريح ، وانتقل من طبيب إلى آخر على أمل الشفاء.
اتصلت انتصار بزميلها محمد بعد عودتها مع أمها لأرض الوطن، فكان العنوان الأقرب والأكثر ثقة هي داخل فلسطين.
شرح محمد حالة أخيه رفيق لانتصار فكانت مشتاقة لرؤيته والتعرف عليه وتتمنى تقديم الخدمة له تقرباً من محمد واحتراماً لرفيق من كثرة ما سمعت عنه من محمد أيام الدراسة في الجامعة.
دعت انتصار محمد ورفيق للمؤسسة لرؤية حالته وما يمكن تقديمه له دعت المستشفى الطبيب محمد للطوارئ في الموعد الذي تم تحديده للقاء انتصار، فأوصى رفيق بالذهاب لوحده ليقابل انتصار.
دخل رفيق المؤسسة التي تعمل فيها الطبيبة وإذا بصراخ وضجيج يملأها ، وسمع مشادة كلامية بين شخص يظهر عليه الكبرياء والغرور والاستهانة بالآخرين وبين إحدى الطبيبات التي تظهر عليها البراءة والأخلاق والحجة.
- قال المغرور للطبيبة : لن أنتظر حتى ينتهي دور كل المراجعين وأريد أن أكمل علاجي فوراً وأعود.
- ردت الطبيبة عليه : لن تدخل قبلهم ومثلك مثلهم فهؤلاء الذين تفضل نفسك عليهم أكرم وأقرب إلى الله منك، فضحوا بأنفسهم لأجل وطنهم ومقدساتهم، نعم انهم فقراء ولكنهم كرماء ومخلصين وأعزاء أما أنت فمصاب بحادث سيارة وقت لهو ومتعة.
- رد عليها : بل أنا افضل منهم ومنك أيضاً وإن لم أتلقى العلاج قبلهم فستجدي نفسك خارج المؤسسة ولا تلومي إلا نفسك.
- أجابته : لن تتلقى العلاج ولو كان أبوك وزيراً.
- بل سأدخل للعلاج شئت أم أبيت.
هنا تدخل رفيق دون أن يعرف انتصار ليس إلا لأنه رأى دموعها وقلة حيلتها أمام إنسان مغرور ويستند لمن له مكانة رسمية من عائلته فقبض أزرار قميص الشاب المغرور من صدره وجره بعنف وازدراء خارج باب المؤسسة ودفعه بقوة على مرأى الجرحى والطبيبة والممرضين وقال له :
- إن سمعت صوتك أو هددت أحد بعد ذلك أو حضرت لهنا ثانية فلن تلومن إلا نفسك.
ركب الشاب سيارته دون أن يتحدث بكلمة واحدة وسأل رفيق عن مكتب الطبيبة انتصار فأشاروا إلى الفتاة التي كان يتشاجر معها المغرور.
اقتربت انتصار من رفيق لتشكره على موقفه قبل أن يصل إليها فتعرفت عليه.
- إذن أنت رفيق أخ محمد إبراهيم ؟؟
- نعم وجئت وفق الموعد ولكن آخي ذهب للمستشفى لأمر طارئ.
- تفضل يا رفيق، فمحمد حدثني عنك كثيراً في الجامعة وكدت أعلم عن حياتك كل شئ وأنا سعيدة جداً بمقابلتك.
- قال رفيق هذا شرف لي وأنا أيضاً سعيد بمعرفتك.
فحصت انتصار رفيق وطمأنته على حاله وطلبت منه المراجعة ثلاث مرات في الأسبوع لعمل التمارين وأكدت انه سيعود طبيعي في أقل من شهرين مع العلاج.
شكر رفيق انتصار وحمل سلام منها لأخيه محمد وعاد لبيت خطيبته منال.
لم يخفي رفيق عنها ما حدث ولا راحته باتجاهها وتحدث عن براءتها وميله الغير عادي لها دون تفسير.
تضايقت منال من كثرة الحديث عن انتصار غيرة من وصفه وإعجابه وتقديره الكبير لها.
فقال لها : لا تهربي لبعيد يا منال فما أشعره باتجاهها ليس له تفسير حب وزواج بل عاطفة قربى غريبة أشعر بها للمرة الأولى، اطمئني يا منال فأنت قدري وتاج رأسي ولن يوازيك في الكون مخلوقة، فأنت الأقرب إلي القلب والروح والعقل والوجدان ثم لكي تبعدي عنك تلك الوساوس والأوهام فما رأيك أن يجمعنا سقف واحد ؟؟
خجلت منال واحمرت وجنتيها وأخفقت رأسها وأجابت، اعطني بعض الوقت لأجهز نفسي فقال:
- وهو كذلك لحتى انتهي من العلاج .
قابلت انتصار زميلها محمد فأخبرته عما حصل وموقف رفيق معها وصارحته بأنها ارتاحت له وكأنها تعرفه من سنين.
تضايق محمد من حديث انتصار غيرة عليها وقال: رفيق يفكر في الزواج قريباً .
- فأجابت: بعدت يا محمد فأنا لا أخفي شعوري اتجاه هذا الشاب كأخ ولكن الأمر غير ما تصورت، فلعل موقفه زاد إعجابي به ليس إلا.
كانت تزيد الرابطة والاحترام والمودة بين رفيق وانتصار عند كل جلسة علاج له فدعاها لبيتهم مع أمها لتتعرف على أمه ومنال فتبادلا معا العلاقات الاجتماعية والعائلية.
وحينما تحسنت ظروف رفيق أرادت الطبيبة استكمال المعلومات في ملفه الطبي لحفظه في المؤسسة فطلبت منه بيانات كاملة.
- قال رفيق : اسمي رفيق نصر العسقلاني.
أوقفت انتصار القلم عن الكتابة وسألته: ألست أخ محمد إبراهيم ؟؟
- فأجاب : بلا أنا أخوه.
- فقالت ولكن اسمه محمد إبراهيم وليس محمد نصر العسقلاني؟؟
- نعم هذه قصة طويلة وقديمة، فأبي كان صديق لأبيه وهما عائدان بي من المستشفى استشهدا بصحبة أمي تهاني السيد العسقلاني وبقيتُ حياً لوحدي، وتبنتني الحاجة محبوبة وربتنا معاً حتى كبرنا ولا نتذكر هذه الحادثة حتى يذكرنا اختلاف الاسم في موقف رسمي كهذا.
- قالت انتصار : إذن أنت ابن الشهيد نصر العسقلاني الذي قتل مع زوجته على مفترق القرية في القدس.
- نعم أنا وهل حدثك محمد عن هذا الأمر؟؟
- فأجابت : يا ليته حدثني بذلك يا أخي، أتعرف من أنا يا رفيق؟؟
- نعم : الطبيبة انتصار.
- قالت : انتصار ماذا ؟
- آسف لا اعرف.
- أنا أختك ابنة الشهيد نصر العسقلاني يا رفيق.
- أحق ذلك؟؟
- نعم يا آخي ، أبونا نصر العسقلاني وأنت آخي، فأبى ترك أمي وهي حامل بي ليجاهد المحتل في فلسطين وعلمت بأنه تزوج واستشهد مع زوجته في نفس المكان الذي وصفته ولكننا لم نعلم أن له ابن حتى تعرفت عليك الآن، لم أصدق نفسي ولا هذا الموقف والصدفة الأجمل في حياتي يا رفيق.
- بل أنا الأسعد بك يا انتصار وأعز الناس على قلبي فاحمد الله أن حقق لقاءنا وجمع شملنا ، كان لي أخ والان لي أخ وأخت جميلة مثلك.
تعانق الأخوان وذرفا دموع الفرح وبكوا من شدة السعادة.
- قالت انتصار: دوماً كنت أشعر بحاجتي لأخ أو أب يساندني وها هو الله يعوضني ويعزني بك، وليس أي أخ، بل برفيق الذي أحببته قبل أن أراه. لقد مرت السنين صعبة وأنا وحيدة بعيدة عن فلسطين والمجدل
- قال رفيق : لن تكون غربة بعد اليوم، وسآخذك للمجدل لتري جمالها وسحرها وسنعوض معاً ما فاتنا من الألفة والحنان والمحبة.
- كم كنت مشتاقة لرؤيتك عندما كان يحدثني عنك محمد.
- قال رفيق : بل أنا الذي كنت أشعر بقرب لم أفهمه من لحظة لقاءنا الأول.
- كم أنا فخورة بك يا رفيق.
- بل أنا يا انتصار- يا عين أخيك وأقرب الناس إلى قلبه.
طلب رفيق من انتصار أن تعود معه لبيت الحاجة محبوبة، فاتصل رفيق بمحمد وطلب منه أن يعود ويأخذ في طريقه خطيبته منال للبيت لأنه يحتاجهم في أمر ضروري.
انتظرت منال ومحمد والحاجة محبوبة عودة رفيق الذي دخل وهو يضيع يديه على كتفي انتصار ويبتسم.
غضبت العائلة من تصرف رفيق الذي لم تعهده الحاجة عليه من قبل وقالت له :
- ألا تخجل من صنيعك يا رفيق؟؟
- الإنسان يخجل من العيب يا حاجة ألم تثقي بابنك وتربيتك؟؟
- وهل يليق بمناضل ومتدين أن يضع يداه على كتفي فتاة غريبة عنه فهل هذه أخلاقنا أم نسيتها؟؟
- بالتأكيد لا يا حاجة فكيف لو كانت أختي؟؟
- ماذا تقصد يا رفيق؟؟
- ابنك محمد يتحمل المسؤولية يا أمي، ألم يخطر بباله تشابه الأسماء بيني وبين زميلته انتصار في الجامعة؟؟
هذه أختي انتصار نصر العسقلاني يا أمي ، أختي من أبي في الأردن.
لم تصدق العائلة ما سمعت من المفاجأة وعانقت الحاجة ومنال انتصار وسعد محمد بهذه الصدفة الجميلة التي ستسهل عليه الكثير.
صارح محمد أمه بحبه لانتصار من أيام الجامعة وطلب منها أن تخطبها له ، فكانت أسعد مخلوقة على الأرض ووعدته أن تطلبها له من أمها وأخيها رفيق.
شفي رفيق كاملاً من إصابته القديمة وتعافى وتحدث مع أمه لتحديد يوم فرحه على منال، وحين اجتماع العائلة في ليلة هادئة قالت الحاجة محبوبة لرفيق:
ما رأيك لو كان الفرح فرحين يا بني ، فأجاب:
أتمنى ذلك يا أمي ولكن كيف؟؟
أنا أطلب منك يد أختك انتصار لأخيك محمد .
تركت انتصار الحاضرين ودخلت إلى المطبخ لتساعد منال فيه.
قبل رفيق رأس أمه ويديها وعانق أخاه محمد وذهب لمشورة أخته انتصار.
- ما رأيك بما سمعت يا أختي؟؟ فأجابت:
- الرأي رأيك يا رفيق وليس لي كلمة بوجودك.
- قال رفيق: بل بوجود أخي محمد بعد اليوم . فعلى بركة الله يا أختي فلن تجدي افضل من أخي وللواجب سوف نطلبك من أمك وأخوالك.
وافق الجميع على محمد وأقامت القرية فرحاً كبيراً تحدثت عنه الناس لسنين وسكن الجميع معاً في بيت واحد تحت جناحي الحاجة محبوبة التي روت لأحفادها الصغار نصر وإبراهيم وتهاني قصص أجدادهم وكل الشهداء فربتهم على حب الله ورسوله والقدس وعسقلان وكل فلسطين.
انتهى الجزء الثالث والأخير من رواية
الشتات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
رواية الشتات / للأسير المحرر رأفت
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
صمود رغم الحدود والقيود :: أسرى الحرية-
انتقل الى: